التينة الحمقاء
من أهم الإرشادات التي تلقيتها في فن إلقاء محاضرة أو خطبة أو أي نوع من الخطاب الجماهيري هو وجوب دراسة الجمهور المتلقي قبل صياغة الخطاب، والاستفهام حول مستواه وخبراته ورغباته والطريق الأقرب للوصول إلى فهمه الجماعي، ولكن، في كل مقابلاتي السابقة المختومة بالأخيرة في «سكوب» يوم الأحد الماضي، لم أكلف نفسي ولو الشيء البسيط من العناء لدراسة جمهوري، فتجدني أنزع لمنطقية النقاش التي لا تجعلني بالضرورة الطرف المصيب فيه، ولكن فقط طرف يمد نقاشا قابلاً للتعاطي دون استجداء عواطف أو دغدغة توجهات، وهذا جمود وجهل بالجمهور لا يلام عليه سواي.
بكل تأكيد، لا يحق لي أن أضيق من ردود الأفعال المحترم والقاسي والمهاجم بل حتى الشتام منها، فمن يفرض آراءه على الآخرين إعلاماً مرئياً أو مكتوباً، يجب عليه أن يتحمل النقد بأنواعه ودرجاته، لذا، فحق الجمهور مقدس لا مساومة عليه، إنما أنا أكتب اعتذاراً عن قلة فهمي وسوء أدبي وتحضيري، فأنا، وبالرغم من عدد المقابلات التي أجريتها وردود الأفعال التي تلقيتها، مازلت أرفض أن أخرج من الفقاعة، فتجدني أندهش تماماً من كم الانفعالات الهوجاء والتعدي اللفظي خصوصاً وهو يبدأ بالبسملة والحوقلة معلناً المتحدث محامياً للخالق والدين، ثم أيام قليلة، فإذا بي أنسى ما فات، وعفا الله عمن شتم، فأعود في مقابلة لاحقة بذات الاعتقاد الفقاعي أن النصر للمنطق والغلبة للعقلانية في الحوار دون أدنى انتباه لحاجة الجمهور وللغة حواره.
شريط أحمر نحيف أسفل شاشة «سكوب» كان بداية «الصحوة»، فبالعودة إلى «مسجات» المشاهدين وبتجاهل تام لأجوبتي التي عفت عليها الانفعالات ودفنتها شتائم الناس، ومع وضع التلفزيون على الصامت والتركيز على تلك التعليقات اكتشفت حجم الفجوة التي أسعى للقفز فوقها بخطوة واحدة.
كعادتي خرجت خارج الحدث، وجلست أشاهد المقابلة، وكأنها تجري مع مغفلة أخرى غيري، وتلقائياً تساءلت: ما الأرضية الفكرية التي تجمع هذه المتحدثة والمعلقين؟ كيف يمكنها أن تتجرأ بآرائها مع هذا الجمهور؟ لقد كان وجهي وكلماتي على الشاشة والتعليقات أسفلها خلطة في غاية الكوميدية لا يلام عليها غيري أنا لجهلي وتجاهلي. إننا في زمن هز الوسط، إعلامنا في منطقتنا العربية كلها يهدر هزاً، لا نستثني سوى القلة القليلة، ثم آتي أنا بقامتي المتصلبة، كأن بي مسا كهربائيا، أو كأني شرطي مرور حسب تشبيه زوجي، وأريد أن أتحاور بالمنطق؟ ترى، كم من الإخوة والأخوات الذين، بعد أن فرغوا من شتمي انتصاراً للدين، تفرغوا للاستمتاع بهز الفيديو كليبات، وعنف المسلسلات، وإرهاب البرامج السياسية والدينية التي تؤلب الكويتيين طائفياً وتحقنهم مذهبياً، وذلك بعد أن ارتاحوا بأداء واجبهم الديني الجهادي بشتم وتحقير عدوة الدين وهادمة الحضارة الإسلامية؟ لقد أخطأت أنا العنوان، لقد سلكت الطريق الطويل، مثل ليلى في قصتها مع الذئب، عوضاً عن الطريق القصير الذي دوماً ما ينصحوننا به، فكانت أنياب الذئب هي جزائي المستحق. الاعتراف بالخطأ فضيلة، وأنا أعترف، لم أدرس في يوم الشارع، سواء العربي أو الكويتي، الذي أخاطبه، ولم أعرف في يوم كيف ألين أو أغلف الكلمات… فشيء من الهز يلين مشاعر الناس ويكسبهم في صفي، لكنني حمقاء كتينة إيليا أبي ماضي، تلك التي أبت أن تقطفها الأيادي فسقطت متحجرة في النهاية بسبب تعاليها وغبائها واستعصائها على يد الناس.
فماذا كان يضرني لو أنني لنت شيئاً فنكرت الحق الدستوري للناس في معتقدهم المطلق، وماذا كان يؤذيني لو أنني حكمت على أي شخص مختلف في توجهه الجنسي أو الديني بوجوب القتل والتنكيل، لن أكون الأولى ولا الأخيرة التي تنتحل مقام الخالق على الأرض، ما يضيرني لو أنني قلت إن تاريخنا نور على نور، وأعلنت ولائي الديني، كما يتزين به المعظم «سكارفاً» رقيقاً براقاً يمكن خلعه ولبسه بسهولة لكسب الرضا مقامرة بالدين على طاولة القبول الخضراء عوضاً عن أن أعيشه أخلاقاً وتصرفات يومية؟ وما المشكلة لو أنني زينت الكلام وجملته وغلفته، وشذبته هنا، ولمعته هناك؟ لكنني حمقاء كليلى ذات القبعة وكتينة أبي ماضي، ولأنني حمقاء فأنا لا أصلح للتواصل مع الشارع الفائر الثائر، فهو يريد أن يهز وأنا لا أعرف كيف «أدنبك».
بصراحة شكلي كان مضحكا وأنا أتحدث عن النظريات الفلسفية والوجودية والتاريخ والليبرالية كجزء من حراك التنوير البشري والحريات الدستورية، بينما الأسئلة «تدنبك» والتعليقات أسفل الشاشة «تهز»، وأصحابها يدعون علي دعاء «ولية في ساعة مغربية».
«سكوب» هي آخر عهدي بالمقابلات التلفزيونية، فالملعب هذا ليس ملعبي، والزمن ليس زمني، وإنزال اللاعب الخطأ في الوقت الخطأ ظلم للجماهير وللعبة الحلوة، وأنا قد أتقبل أن أكون ساذجة، ولكنني لا أريد أن أكون ظالمة، ويبقى اللقاء الأرحب الثابت بحبره بيني وبين قرائي على صفحات «الجريدة»، وبيني وبين الحضور في رحابة قاعة ندوة لا «دنبك» فيها ولا طار، ففي هذه الأماكن، مهما ارتفع النقد، لا يغيب المنطق كلياً، وهذا هو بيت القصيد، أما ما هو دون هذه المواقع… فهو ليس من حقي.
ومن أجل عيون رفيق الدرب الذي يختلف معي في قراري هذا أقول هذا قرار لا ينقضه إلا عرض منطقي يستحيل رد قيمته العلمية وفضله الحواري وثقافته وقدرة مقدمه، وتبقى المقابلة الأخيرة، بلا شك، من أطرف المقابلات أسئلة وتعليقاً وأجوبة، كل واحد في «وادي»… ولا حياة لمن تنادي.
* يقول إيليا أبو ماضي:
«وظلت التينة الحمقاء عارية كأنها وتد في الأرض أو حجر
ولم يطق صاحب البستان رؤيتها فاجتثها فهوت في النار تستعر».