البالونات الطائرة
بدت صورة وزيرة العمل السويدية جالسة على كرسي في محطة القطار تنتظر “توصيلتها” غريبة وغير واقعية. كانت الوزيرة ترتدي جاكيت أحمر بسيط وقد وضعت حقيبتها أرضاً ومسكت بين يديها علبة بلاستيكية تحتوى على ما يبدو وجبة عشائها. تبدت على وجه الوزيرة ابتسامة لطيفة مرهقة وقد استدارت بأكملها لتعطي لمصورها فرصة التصوير التي بدا أنها لم تمانعها، وكأنها حق من حقوق العامة. الوضع كله بدا “أجنبي” على عقلي العربي، بداية من جلستها وحيدة على كرسي المحطة الحديدي، مروراً بجاكيتها البسيط وحقيبتها المهملة على الأرض، وانتهاءاً بابتسامتها التعِبة التي تشير بوضوح ليومها المليئ بالعمل.
منذ بداية أزمة جائحة كورونا طفت على السطح كل فضلات الفساد الذي لطالما كان كامناً أسفل طبقات من السرية السياسية، مروياً بشبكات معقدة من العلاقات الاجتماعية والسياسية المريبة، محمياً بخوف الناس الشاسع من الإفصاح المصحوب بشعورهم بعدم جدوى هذا الإفصاح. إنه فساد لطالما ستره المظهر الديني المحافظ لمجتمعاتنا وسيطرة المشاعر البطريركية التي تحكم علاقاتنا بمسؤولينا وتفرض علينا الصمت “احتراماً” لمقامهم.
وعلى حين أن الرأسمالية العالمية أثبتت فشلها في التعامل مع الكوارث البشرية التي تتطلب إعلاء مفاهيم ومبادئ أكثر انسانية وأقل مصلحية، الا أن قصتها المروية على خلفية شمولية مُحافِظة في شرقنا الأوسط جعلت نتاجها أكثر تعقيداً وأعظم ضرراً وأشد تعفناً. لقد ضربت حكوماتنا العربية عصفورين بحجر برأسماليتها الديكتاتورية، من جهة فتحت أبواب الفساد ومن جهة أخرى أغلفت أفواهنا المسكينة، حتى الحرية “العربية الهزيلة” التي يفترض أنها أحد إيجابيات الليبرالية الرأسمالية المطبقة في شرقنا الأوسط كانت حسرة علينا.
حكايات الفساد وقصص السرقات التي أجبرتها الكورونا على أن تطل برأسها البشع علينا، والتي لربما نحن لا نرى سوى قمته فقط، فبقية الرأس بجسده الضخم لا يزال مغمور تحت طبقات من الزمن والعلاقات والنفوذ، هذه الحكايات والقصص سيكون لها تبعات خطيرة وحارقة في القادم من الأيام، خصوصاً وأن خافيها الأعظم لن يبقى خفياً لوقت أطول. تعاني الكويت اليوم من هبوط مؤشرات الأمان الإقتصادي وارتفاع مؤشرات الفساد مما سيؤثر على فرص استثماراتها الدولية هذا بالاضافة للضربة الاقتصادية التي تلقتها الدولة من حيث تزلزل أسعار النفط والخسارات المتلاحقة لتوقف الحياة عموماً. مثل الكويت في ذلك مثل العديد من الدول الشرق أوسطية التي قلبت الكورونا تربتها لتظهر ما دفن أسفل سمادها، الفرق أن الكويت صوتها أعلى ببرلمانها وبصحافتها المعتادة على درجات أكبر نسبياً من الحرية. ميزة أخرى للكويت هي أن أهلها يؤمنون أن الشأن شأنهم، فيدسون أنوفهم في كل القضايا، استحقاقاً بالطبع، ويصدحون عالياً بآرائهم تجاه هذه القضايا، مرة أخرى نظراً لدرجة الحرية المرتفعة في الكويت مقارنة ببقية دول الشرق الأوسط. يبقى أن العيب الرئيسي الذي يجب أن نعترف به ككويتيين هو أن ذاكرتنا قصيرة، ستغمرنا الحياة بمشاغلها، وأحياناً برفاهيتها، وسننسى سريعاً، وهذا ما نحتاج له عقار مضاد قوي التأثير.
وأهم مضادات الفساد هو تغيير الفكرة، أن المسؤول الحكومي ليس مرعباً بالدرجة التي يصورها لنا هو، أنه ليس أبا أو أخا يستوجب علينا عدم مساءلته أو محاسبته احتراماً لمقامه، والأهم أنه موظف لدينا ولسنا نحن خادمينه.
المسؤول الحكومي، مهما علت رتبته، هو موظف إداري، معني بمصلحة البلد، مؤتمن على بعض من مداخيله وخيراته، علاقتنا به يفترض ألا تكون شخصية، أن تقف عند حدود أداء الواجب من طرفه والمحاسبة من طرفنا. المسؤول الحكومي يفترض أن يكون تحمله للنقد اللاذع أكبر، أن تكون محاسبته أدق، أن تكون بهرجته أقل، أن يكون تواضعه أعظم، أن يكون انتظامه أشد، أن يكون خوفه من المحاسبة ومن اصطياد الناس لأي مظهر مبالغ أو مترف عليه أقوى من أي شعور آخر. حتى يقل الفساد وترتفع نسبة النجاح الإداري وتتحقق المصالح العامة بدرجة كبيرة لابد أن يستوعب المسؤول الحكومي حجمه الحقيقي، دوره الحقيقي، والسلطة الحقيقية للناس عليه لا العكس.
في عالمنا الشرق أوسطي، لدينا ظاهرة غريبة للنفخ في أنا المسؤولين، نبقى ننفخ ذواتهم ونغذي نرجسياتهم حتى يتورموا كالبالونات الطائرة التي تعتقد أن من حقها أن تسحب معها كل خيرات الأرض فلا تبقي شيئاً “للصغار” الذين ينظر المسؤولين لهم من علي. “ماذا سيستفيد “الصغار” الموجودين على الأرض من الخيرات؟ ما سيصنعون بها وكيف سيفيدون ويستفيدون؟ هل يعرفون أصلاً قيمة المال وطريق استثماره؟” هكذا تبرر البالونات المنتفخة لنفسها استئثارها بالخيرات والمصادر والموارد وهي تغادر سطح الأرض مرتفعة أعلى فأعلى الى أن تنفجر لينهمر فسادها الطيني على رؤوسنا.
لكي ننهي الفساد يجب أن ننهي ظاهرة المسؤول البالون، فنبقيه على حجمه الطبيعي إن لم نكمشه أكثر بالحساب الشديد والمراقبة الدقيقة. يجب أن نعرف أن المسؤولين موظفين عندنا، يحمون أملاكنا ومواردنا، محاسبتهم الشديدة واجبنا، وتواضعهم أمام قوانا وحقوقنا كشعوب هو واجبهم العملي والأخلاقي. إلى أن يركب مسؤولينا مواصلاتنا لا السيارات الفاخرة المخصصة لهم من مقار عملهم، يأكلون وجباتهم من علب بلاستيكية من مطاعمنا لا على الطاولات المخملية في الفنادق الفاخرة، يلبسون ملابس محلاتنا البسيطة التي تعبر عن تواضعهم وانتمائهم للعامة لا البدلات الباهظة التي تغطي قيمتها الحاجة الشهرية الكاملة للأسرة العادية، إلى أن ترتسم الابتسامات المرهقة الدالة على الإخلاص على وجوه فقدت لمعانها ليصبغها بهات التعب والانكباب على العمل، الى أن يتحقق كل ذلك، سيبقى الفساد حياً بيننا، تارة ينمو في تربة عفنة وتارة يرتفع مع بالونات متضخمة، مستوراً بخوفنا وعلاقاتهم، احترامنا واستصغارهم لنا، تحفظنا واستمرائهم. حان وقت التغيير. إن لم تغيرنا، تفكيراً ومنهجية وفعلاً، هذه الجائحة، فلا أمل لنا أو فينا.