الامتحان
يعيش الإنسان، منذ بداية وجوده، بين منظومتين عمليتين ترتبان حياته هما منظومتا الحقوق والواجبات، وقد شرع الإنسان منذ بداياته، حتى في العصور التي كان أقرب فيها لمخلوق بدائي، بتكوين جسد أخلاقي ينظم من خلاله حقوقه وواجباته، وقد جاءت الحاجة إلى هذا الجسد من باب المحافظة على الحياة واستمرار النوع، بمعنى أن الإنسان اكتشف وسريعاً أنه بحاجة إلى قانون حياتي و”شيفرة” أخلاقية يضمنان سلامته، وذلك عبر تنظيم علاقاته بغيره من البشر: لا يقتل ولا يُقتل، لا يسرق ولا يُسرق وهكذا.
إلا أن “العالم الحديث” كما يقول عبدالكريم سروش في كتابه التراث والعلمانية “في مجال التنظير يرجح الحق على التكليف ويستخرج التكاليف من الحقوق، فالناس في العالم الحديث يتحركون في المرتبة الأولى على مستوى المعرفة والتفاعل الاجتماعي من موقع كونهم أصحاب حق، وينطلقون في سلوكياتهم من هذا الموقع، والأهم من ذلك أنهم لا يقولون إن حقوقنا مقتبسة من مصدر معين، بل يقولون إننا نملك هذه الحقوق بذاتنا” (81-82). إذن فالإنسان الحديث يرى أن حقوقه تسبق واجباته، أو بصورة أدق، أن واجباته تتأتى من حقوقه؛ لذا نجد اليوم أن العالم الحديث يؤسس لمنظمات “حقوق” الإنسان، يوثق المعاهدات التي تنظم “حقوق” الإنسان، مخاطباً وباستمرار الإنسان الحديث حول “حقوقه” لا واجباته.
وعليه فللحق الإنساني نوعان كما يبينهما سروش: حق مطلق لا يولد تكليفاً تجاه الآخرين، “فهي حقوق من قبيل الرخصة والإباحة” (83) كحق اختيار التنقل وحق اعتناق دين معين أو التخلي عن دين معين وغيرها، وحق مرتبط بتكليف، فهو حق يصحبه واجب يتأتى منه. العالم الحديث “يقوم على أساس النظام الحقاني” (83) أي أن الأصل للأفراد هو الرخصة الواسعة لا يبددها سوى مانع خاص، “وهذه الحالة” يؤكد سروش “تشير إلى أن الإنسان كائن محق ومتحرر إلا مع فرض وجود مانع” (84)، وأما العالم الرجعي أو “الحالة المقابلة” على حد تعبير سروش فتقوم على أساس “الالتزام بالتكاليف وأن يعيش الحرمان إلا إذا أُذن له في ذلك” (84).
الملاحظ هنا، أن الحرمان في الدول الرجعية يقع على عاتق الأقليات سواء العددية أو الاجتماعية مثل النساء ومن ينتمون إلى أصول أو طوائف أو أديان معينة. لذا نجد أن العالم الرجعي يضع على هذه الفئات كل الواجبات ويمدها بأقل القليل من الحقوق، وهي حقوق تتأتى بمنة، ولا تنبع من فكرة أصالة الحق الإنساني واستحقاقه فقط بوجود الإنسان على سطح الأرض.
من هذا المنطلق الرجعي تتراكم المشاكل في مجتمعاتنا، فالإنسان عندنا له حقوق بشرط أن يكون ملتزماً بقراءة دينية معينة، أن تكون حياته متسقة مع النظام الاجتماعي، أن تكون اختياراته متوافقة والأعراف، فإذا ما خرج خارج هذا الإطار قليلاً أو كثيراً، يهبط ميزان حقوقه، لا يشفع له في ذلك إنسانية ولا مبدأ. أعتقد جازمة أن مشكلة البدون الكويتيين الأساسية تتأتى من هذا المنطلق الرجعي الذي يقف كحاجز رئيسي بينهم وبين حقهم الإنساني الأصيل في الانتماء، ففي حين أن هناك قراءة تاريخية وشرحاً اجتماعياً للكيفية التي تكونت فيها شريحة البدون، وهما، القراءة والشرح، يشيران إلى مدى التعسف الحكومي والإجرائي ومدى تدخل المصالح والوسائط ومدى استغلال القوي للضعيف، وبالتالي مدى استحقاق هذه الشريحة لانتمائها إلى وطنها الكويت، إلا أن الحجة الأقوى في الموضوع يجب ألا تكون تاريخية بل يجب أن تكون إنسانية حقوقية.
من هو المواطن؟ ما يعطيه حق المواطنة؟ ما هو حق المواطنة؟ هل لانتمائك العرقي أن يهدد مواطنتك؟ هل لأخطائك أو أخطاء آبائك أو أجدادك أو هل لمخالفاتك الدينية أو الاجتماعية أو حتى القانونية أن تحرمك مواطنتك؟ كيف تصبح جزءاً من الأمة؟ بتوحدك معها في العرق؟ بتشابه لسانك ولونك بأهلها؟ ببقائك فيها لزمن؟ باشتراكك وأهلها في المشاعر والمصاير؟ بمحبتك الصادقة لها؟ بعطائك لها؟ ما هو العطاء؟ أن تكبر وتتعلم وتبيع وتشتري وتقضي حياة كاملة فيها؟ أن تسيل دماؤك من أجلها؟ الإجابات عن هذه الأسئلة من شأنها أن تخلق “أمة” توحدها المحبة للأرض والشعور بالمسؤولية أو تخلق “عشيرة” يوحدها عرق وأصل ولون. الإجابات تخلق وطناً مدنياً حديثاً، مواطنوه ليسوا رعايا ولم يرثوه بالضرورة، أو تخلق تكتلاً عنصرياً رعاياه أتباع ورثوا انتماءهم دون أن يرثوا الشعور، أغلقوا الباب خلفهم لا يسمحون لإنسان شريف أحب الأرض وأخلص العمل بالانضمام إليهم. الإجابات تحدد المنطلق وتخلق الكيان الذي سنحيا فيه ومن خلاله، وقد حان وقت الإجابة، ويوم الامتحان يكرم المرء أو يهان.