الأمن العنيف
أصبح فزاعة هذا الأمن، سلطوه على رقابنا حتى أقنعونا بقبول استباحة كرامات الآخرين باسمه، باستباحة إنسانيتهم، بل باستباحة حيواتهم، تسرّ لنا حكوماتنا بأعلى صوتها، في كل خطوة تخطوها، في كل قرار تتخذه، أن الأمن له ثمن، أقله الحريات وأعظمه الأرواح. تضعنا الحكومات بين مطرقة الرعب وسندان الدكتاتورية، فإن أردت أمناً فلا بد من القبول بالشيء الكثير من الدكتاتورية، وإن أردت حرية فلا بد من القبول بالشيء الكثير من الرعب، وكأن الأمن والحرية لا يجتمعان لشعب عربي مطلقاً. تسمع الكويتيين يرددونها دائماً: “الله يديم علينا نعمة الأمن والأمان”، ولا نملك سوى أن نقول آمين، ولكن أي معنى للأمن بلا حرية وأي قيمة للأمان بلا كرامة إنسانية؟
بكل تأكيد أريد أماناً، أريد عيشاً سخياً في سلامة، ولكنني لا أريد للآخرين أن يدفعوا الثمن، لا أقبل بالأضرار الجانبية والضحايا الذين “لا بد منهم”، ليس أمناً هذا الذي ينتج عن تعذيب المتهمين في السجون إبان التحقيق، ليس أماناً هذا الذي يتجلى عند إعدام إنسان، أياً كان جرمه، وبعيداً عن النقطة الجلية أن هذه وسائل وعقوبات غير إنسانية يلعب من خلالها الإنسان دور الرب، المسألة هنا متعلقة بنتاج هذا الأسلوب المتبع على بقية المجتمع، على الطرف المتفرج منه. إن القبول بمبدأ التعذيب هو قبول بالمبدأ العام للعنف المريع، العنف الممنهج الذي يحمل في طياته امتهاناً للإنسان ودعساً لكرامته وكسراً لنفسه. هذا النوع من الامتهان لا يشفى منه إنسان، لا ينساه ولا يعود بعده على ما كان مطلقاً، بقبول هذا المبدأ يقبل المجتمع بتحطيم إنسان من أجل مجموعة، بالعنف كوسيلة حل، وبالامتهان والتحقير كوسيلتي تحقيق أمن. وكذا هو الإعدام الذي يتجلى خطره الأعظم في أنه مبدأ يعزز فكرة الموت كتكلفة للحياة، مما يغلظ الشعور المجتمعي الجمعي ويدس بأريحية فكرة الموت المقنن بين أفراده.
دع عنك حجة وماذا عن المغتصب؟ ماذا لو قتل أحدهم ابنك؟ ماذا لو روع أحدهم أحبتك؟ هنا لا بد أن نعي أن الوسيلة والعقوبة غير مقصود بهما الانتقام، أو لا يفترض أن يقصد بهما ذلك؛ لذا ليس من الحكمة توجيه السؤال بهذه الصورة، فبكل تأكيد الإنسان المصاب المكلوم سيقول بالقتل والتعذيب، ولذا لا تترك عقوبة لمكلوم، ولا تسأل فيها ثكلى، يجب ألا تصاغ العقوبة على أساس الانتقام، يجب ألا تقنن لتحقق ثأراً، فالمقصود بالعقوبة الإصلاح الفردي والمجتمعي، فأي إصلاح في وسيلة تفتك بالكرامة وفي عقوبة تنهي حياة الأفراد؟
لا يمكن أن ننكر تعذيب متهمي تفجير مسجد الصادق كما تعذيب متهمي خلية العبدلي، هؤلاء جميعاً أهينوا وعذبوا حيث ظهرت صور لبعضهم في وضع مهين تحقيري لمعتقداتهم ومزدرٍ لكراماتهم، وهو تعذيب ندري أنه تعدى الأذى الجسدي البشع إلى ما هو أبشع، إلى إهانات لفظية وتهديدات في العرض والشرف، فكيف يمكن لأسلوب دنيء أن يحقق أي خير؟ وكيف يمكن للمجتمع أن يعتذر لمن تحصلوا على البراءة لاحقاً؟ كيف نعيد لهم كراماتهم أو نجبر نفوسهم التي تهشمت تحت وقع الإهانة والتحقير؟ هذا الأسلوب “التحقيقي” يجب أن ينتهي على الفور، خصوصاً في دولة حصلت على لقب إنساني كبير، يجب أن يعززه العمل الحقيقي بالمبادئ الإنسانية الخالصة دون تنازل أو استثناء.
نحن جميعاً نعلم بما يدور في أصغر مخفر في الكويت إلى أكبر مركز للمباحث وأمن الدولة، لا بد لهذه الممارسة أن تنتهي، ولا بد لعقوبة الإعدام أن تختفي، لا بد للمجتمع أن يتحمل المسؤولية في تحديد العقوبات ووسائل تقصي الحقائق. لن يكون مجتمعاً صحياً ولا مجتمعاً آمناً هذا الذي يضم نفوساً كسيرة وكرامات مهشمة وعائلات مكلومة بفقد أفرادها لعقوبة الإعدام، فلنلتزم باللقب، فهو لا يرد ولا يستبدل.