الأدب يعلم الأدب
يدور الحديث كثيراً عن ضعف المناهج الدراسية وتهلهل مادتها، بل و”تعنصرها” وتطرفها في مواقع كثيرة، مناهج جافة، لا مواضيع حقوق إنسان ترويها، ولا أساليب فكرية متحررة تقدمها، ضعفٌ عام يعكس الوضع المتردي في البلد ويسقيه في ذات الوقت، هو السبب والنتاج، فما عدنا نتذكر ما أتى أولاً، الخراب الذي أفسد المناهج، أم المناهج الرديئة التي أفسحت للخراب. إن الدولة التي ترمي إلى إصلاح وضعها تبدأ منطقياً من مناهجها التي تقدمها للأجيال القادمة، هكذا فعلت أميركا عندما فزعت من التقدم السوفياتي الفضائي إبان منتصف القرن الماضي، فأمرت الحكومة بتجديد جميع المناهج العلمية، وخصوصاً مقرر الفيزياء ليعدّوا جيلاً جديداً قادراً على التغلب على السوفيات في السنوات القليلة التالية، وهو ما حدث فعلاً. ومن أجل هذه المهمة، تم تكليف برنيس آبوت، أحد أهم محترفي التصوير الفوتوغرافي في القرن الماضي، لتزويد الكتب العلمية بالصور الفنية المشوقة التي ستشد العقول اليافعة إلى العلم وتحببها فيه. فكان الفن الأداة الرئيسية في إصلاح المناهج وتطويرها.
وفي الحضارات القديمة، لطالما كان الفن والثقافة والأدب أهم “مؤهلات” رجل السياسة، فمثلاً لم يكن الرجل الإغريقي يعد مثقفاً ما لم يستطع أن يؤدي أغنية أو رقصة في أي تجمع يطلب منه ذلك، كما كان رجل السياسة الصيني الحقيقي هو ذاك الضليع في الفن والأدب، وخصوصاً الشعر منه، حيث كانت الحكومات الصينية القديمة تركز على الفنون والآداب في مناهجها تأهيلاً لهؤلاء الذين سيعملون في وظائفها، وعليه كانت، ولا تزال، الأغلبية العظمى من سياسيي الصين من رفيعي الثقافة الأدبية، حتى أن ماو زيدونج، قائد الثورة الشيوعية الصينية، كان شاعراً موهوباً، إضافة إلى كونه سياسياً مخضرماً. كل حضارات العالم، بلا استثناء، كانت تضع للفنون والآداب أعظم المكانة اجتماعياً، والأهم سياسياً، فكانت المدن الإغريقية والرومانية القديمة تكتسب سمعتها السياسية اللامعة من قواها الفنية وتقدمها المسرحي والشعري، حيث كانت المدينة التي تفوز بمسابقات الشعر والمسرح والرسم والنحت، وتلك كانت مسابقات سنوية بالغة الأهمية والجدية، تفرض نفسها على بقية المدن وتصبح هي القوى السياسية العليا في المنطقة. هذا النهج لا يزال قائماً بين دول العالم “الأولى” التي تعرف أن قدرات أفرادها تصاغ بالفن، أن دروسهم الحياتية يتلقونها من الأدب، أن العقل التحليلي يطوَّر من خلال دراسات النقد والفلسفة، فتجدها تولي هذه المعارف أكبر الأهمية، حتى إن حكوماتها تعين Poet Laureate أو شاعر الدولة، الذي (أو التي)، يمثل رئيسها وحكومتها في حقبته الزمنية.
ما أود قوله هو أنه، وبمناسبة قدوم الوزير الجديد د. بدر العيسى إلى كرسي وزارة التربية، فالمطلوب الآن زيادة الجرعة الثقافية الفنية والأدبية والحقوقية الإنسانية في المناهج الدراسية. لن أقول يجب محو كل تطرف و”تعنصر”، لن آمل أن نستحدث مناهج تساوي بين الجنسين وتخفف حدة الاختلاف بين الطائفتين، لكن على الأقل، آمل مناهج ترقق القلوب وتصعد بالذوق العام وتفتح أبواب تقبُّل الآخر بارتفاع نسبة الآداب والفنون فيها. إن تعليم الصغار الشعر والأدب، وإطلاعهم على المسرح، بل واستخدام أدوات الأداء المسرحي في تعليم المقررات الدراسية، وتدريسهم الرواية وصناعة السينما، وتعريفهم بالحركة الفنية التشكيلية، كل هذا من شأنه أن يفتح أبواب قلوبهم الموصدة، يقدم لهم الآخر المختلف في أجمل وأرق صوره، يجمعهم بالعالم بلغة يفهمها الجميع، لون أو نغمة أو حركة على المسرح. هكذا تتفتح آفاق الجيل الجديد وتنمو لديه قدرات الخلق والإبداع. هكذا سيكون لدينا ساسة بعد عشر سنوات، مهذبو الطلعة، لطيفو الحوار، مرتفعو الثقافة، متفتحو الأفق. ستتحسن لغة الحوار، وتتهذب النقاشات، وتخف حدة الهزل وتنخفض درجة سخافة وسذاجة الطرح، كل هذا سيتأتى لو كان السياسي متذوقاً للفن والأدب. عمل خطير ينتظر السيد وزير التربية، أولاً بإنقاذ كل أطفال “البدون” بإعادتهم إلى النظام المدرسي الحكومي مباشرة وبدون استثناءات، وثانياً بتعديل المناهج الدراسية، بما يخفف حدة العنصريات فيها، وبما يفتحها على الآخر وعلى العالم. مهمتان ثقيلتان ننتظر أداء الدكتور فيهما.