اعترافات واعتذارات
أكتب مقالي وأنا مستلقية في فراشي، معزولة تماماً عن بقية أسرتي، يتنازعني سعال ناشف وثقل في الرأس وآلام في أنحاء الجسد. اليوم أجريت اختبار كورونا وغداً ستأتيني النتيجة، أتصور بنسبة 90٪ أنها ستكون إيجابية بإصابتي بالفيروس. كنت حريصة تماماً طوال فترة انتشار الجائحة، لم أغادر بيتي أو أتخالط لما يقرب من أربعة أشهر منذ بداية أزمة كورونا، ثم استبد بي الشوق للحياة وتصورت أنني سأستطيع التصدي للفيروس اللعين بالحرص والحذر والتعقيم والكمام، لكنه الجسد المسكين وإهمال الآخرين (وتلك حكاية تغضبني لها وقت سردها اللاحق) كلها سلمتني للفيروس على حد تقديري. غداً سأعرف وإن كان قلبي 02وجسدي يحدثاني بالحقيقة من الآن.
صباح اليوم استقبلني زوجي في مكتبنا على العادة بتصبيحته الجميلة المصحوبة دوماً بيده الحانية تلتف حول ظهري أو تربت على رأسي تحضرني لليوم الجديد بما قد يحمله من تحديات ويقدمه من بهجات. اليوم دفعت يده بعيداً، فنظر إلي ضاحكاً «لو كنت مصابة سنكون كلنا مصابين، لا داعي لتباعدك المتأخر هذا». رغم ذلك، عزلت نفسي في غرفتي تماماً، طردت ابني البكر شر طردة حين حاول زيارتي من عند باب الغرفة للاطمئنان علي، وتفاديت كل تبادل بيني وبينهم، حتى الاتصال التليفوني بدا مخيفاً الآن، وكأنني سأوصل للمتصلين رذاذي المريض عبر أسلاكه. أنا مصدر الخطر في البيت اليوم، يا لها من فكرة غريبة مرعبة..
ولأننا بشر، تأخذنا أفكارنا للبعيد المبالغ فيه (على ما أتمنى) فقد سحبتني الخيالات إلى منطقة مخيفة، إلى حيث يشتد عليّ المرض فلا أستطيع أن أتواصل مع أسرتي، لا أستطيع أن أقول لهم كل ما أريد أن أقول… أنني أحبهم وأنهم أهم إنجازات حياتي وأن الحياة تلونت بوجودهم وأن شخصيتي قويت بالاختبارات الكثيرة التي وضعوني فيها، كل ذلك يعرفونه، لا حاجة لي فعلاً أن أقوله، لكن هناك القليل الخفي الذي لم أقله في يوم، هل يستوجب عليّ أن أقوله في الأيام القليلة المقبلة، هل أستطيع؟
لربما أخبر طلال أنني أتمنى له أن يجد أحلامه أينما كانت، حتى لو في مكان بعيد، حتى لو فرقتنا هذه الأحلام وباعدت بين أجسادنا، دمه هو دمي، وسيبقى في عروقي ولو أخذته الدنيا لأي من أنحائها البعيدة. لربما أخبر صوفي أنها اليوم إنسانة جديدة حتى لو لم تدرك ذلك بعد، وأن لها روعة وحضوراً وزهواً لا أحدثها بها كلها كثيراً حتى لا تحول عينيها عن الدنيا وواقعها. لربما أخبر ياسمين، ورسالتها هي الأصعب وبوحي لها هو الأكثر إيلاماً، أنني كنت طوال السنة الأخيرة أكذب عليها، أنها في الواقع لم تعد تحتاجني، كبرت وتخرجت من الثانوية وهي على وشك الانطلاق لتتم تحصيلها الجامعي. ورغم أنني كنت أتشبث بآخر ما بقي لي من ممارساتي الأمومية، فأصور لها أنها لن تستطيع أبداً أن تقف وحدها دون وجودي معها وأنها ستبقى طفلتي ما امتد الدهر، وأنها لن تستطيع أن تستقل بعيداً عني في يوم، إلا أنني كنت أدرك في أعماقي أن لتشبثي هذا تاريخ نهاية، كنت أصوره بعيداً، مستلقياً هناك عند شيخوختي. لكن يبدو أن موعد البوح والاعتراف قد حان. أنت قوية يا ياسمينتي، في الواقع أنت لا تحتاجينني، قدماك راسختان، كما أخيك وأختك، وستسيرين في الحياة ثابتة الخطو كما هما. آسفة أن صورت لك غير ذلك يا صغيرتي..
أما زوجي، فأول ما حضرني أن أخبره به هي الأشياء العملية. هل لديه كل كلمات المرور المهمة البنكية لي؟ هل علي دين لم أخبره به؟ لدي أبحاث معلقة، لربما أرسلها له ليجد من يكملها وينشرها؟ هناك نشاطان مهمان جداً أشارك بهما على الساحة، لا بد من إرسال كل أوراقهما وملفاتهما له. تليفوني عليه رسائل لها خصوصية اجتماعية، سأطلب منه تحويلها لثقاة عاملين في المجال يتولون التعامل معها. لكنني لم أقل له شيئاً من ذلك. قبل أن أتوجه إلى غرفتي لأطبق العزلة التامة، سألته على استحياء وأنا متوترة من رد فعله: لقد طلبت بعض الطلبات على النت، بعضها وصل وقد لا أستعملها، سأعيدها في صناديقها مع الفواتير، لربما تعيدها إلى متاجرها إذا ما لم تعد هناك حاجة إليها؟ نظر إلي وقد ارتسمت ابتسامة غاضبة على وجهه: هل جننت؟ اعتذرت له سريعاً وأنا أخبره أنني فعلاً بخير، أعراضي بسيطة وقصتي لا تستحق كل هذه الدراما التي خلقتها حولها فعلياً. كان الموقف محرجاً حقاً..
حين نستحضر فقراء العالم ومعاناتهم الحالية مع هذا الوباء والموت الذي عم الكثير من الشوارع، والحرمان الذي أصاب الكثير من الأجساد التي كان يمكن لها أن تنجو لو أنها تحصلت على الرعاية الصحية المستحقة، حين نفكر في ضعف الديمقراطيات الكبيرة وفي وحشية الرأسمالية الجشعة تعاملاً مع تداعيات الوباء وتأثير ذلك على الأقل حظاً في العالم، يصبح قلقنا ـ نحن الآمنين المحظوظين دون استحقاق فعلي ـ ليس سخيفاً فقط بل ووقحاً كذلك. لكنها الطبيعة الإنسانية التي تأخذنا بمخاوفنا إلى البعيد والطبيعة التفكيرية للبعض منا، وأنا منهم، الذين يميلون لترتيب كل أمورهم دون ترك متعلقات أو قصص لم تكتمل أو قضايا لم تغلق أبوابها.
في الغالب سأكون بخير، صحتي طيبة، أعراضي متوسطة، حظي كبير جداً في الحياة، أكبر بكثير مما أستحق. في هذه اللحظات التعبة المخيفة نوعاً ما، ومثلما أستذكر عائلتي ومتعلقات حياتي التي أود إرساء خواتيمها قبل أن يفوت الأوان، أستذكر كذلك معاناة البلايين من البشر حول العالم، الذي خانتهم ضربة الحظ الجينية، وتكالب عليهم الجشع المالي والسياسات الفاسقة، فأَرْدَتهم الحياة بظروفها ضحايا منكوبين.
آه، ولن يتم المقال ويُختتم ما في القلب دون أن أقول لقراء «القدس العربي» أحبكم جميعاً، دمتم بسلام..