اعتذر لي
كل صباح أدلي ساعدي خارج نافذة غرفة نومي لأختبر الجو وأحدد ملبسي، يشغل زوجي الراديو وهو يرتدي دشداشة جديدة في بداية يومه، أبدي انزعاجي ولكنني أنصت باهتمام. يغادر هو الغرفة وأبقى أنا مع الـ»بي بي سي»، أعلق لوحدي بصوت مسموع، أتمادى في «ملافظي» محتمية بوحدتي، أتجه إلى «دولابي» لأنتقي قطعة ملابس وأبتسم وأنا أتذكر سخرية زوجي الصباحية وهو يقلدني أمام «دولابه» المحشو بدشاديش متطابقة: «شنو ألبس اليوم؟» أهرع لمكتبي، ألملم الأوراق، أعود للغرفة لأضع ساعة على معصمي أنساها كل صباح، أندفع خارج البيت وأنا أهتف شيئاً غير مهم حول الغداء للسيدة «صفية» مدبرة منزلنا وصاحبة القرارات القراقوشية في عائلتنا. تلفحني الشمس فأستنشقها، في قلبي رضا دائم على الجو، أحب الشمس وأسامح الغبار وأسالم برد الشتاء الصحراوي القارس. أدير أغنية في السيارة وأتجه بشوق إلى الجامعة وكأن غيبتي استمرت شهراً وليس ليلة وضحاها، أستمتع بكل دقيقة في محاضراتي، أناكف طلبتي وأمازح زملائي، أحذر عبدو، سكرتيرنا النشط، من تسليمي المزيد من العمل، أطلب من سليم، العامل اللطيف في القسم، كوب شاي وأنساه حتى يبرد. أغادر وأنا أصيح سلاماتي و»أشوح» بيدي لكل من يمر علي، وفي الأيام التي يتأخر فيها زوجي في عمله، «أزرق» للأفينيوز، أشتري شيئاً لا أحتاجه، أؤنب نفسي، ثم أستمتع بكوب قهوة مع صديقة قلبي نادية… هكذا هي صباحاتي التقليدية، رائقة، «ناطعة»، أنتظرها كل ليلة بفارغ الصبر.
أين «حلاوة» الأيام هذه الأيام؟ لا أكاد أشعر بمذاق وكأن قطعة مطاط كبيرة تتعلق في حلقي، لا لون ولا طعم ولا رائحة. لم يعد الصباح صباحاً، ولا الـ»بي بي سي» صوتاً أشتاق أن أعاركه في وحدتي الصباحية المجنونة، لا أبتسم عندما يقلد زوجي حيرتي أمام «دولابي»، لا أهتم بنسياني للساعة على معصمي، حتى صفية لم يعد لصراع القوى معها طعم. غصة تقف في حلقي وأنا أطلق الكلمات في محاضراتي، تبدو باهتة منفصلة عن واقعها. تنتابني رغبة قوية في البكاء وأنا أنظر إلى طلبتي جلوساً على مقاعد الدراسة: ترى كم منكم سيذهب ضحية تطرف؟ كم منكم سيفقد ثقته ببلده ويلجأ إلى «مؤسسة» أخرى؟ كم منكم سيكره ويقسو ويتمذهب و»يتأصل ويتفصل»؟ الأسبوع الماضي كان الأسوأ، فقد اكتشفت أنني لست فقط طائفية ولكن أقلية لا تنتمي إلى الكويتيين الأغلبية الذين تتجذر أصولهم في السعودية، وهذا ليس حديث «شوارعي» أو «شوية شباب» غير فاهم على «تويتر» أو «الفيس بوك»، هذا من وزير الداخلية في بلدي. في وقت من الأوقات، وقفت أنا أمام كاميرات الإعلام لأرفض «العنوان» الديني، وقلت ما أنا سوى كويتية، فتزلزلت الأرض، وتشبثت أنا بها لأنني أدرك أن خلاصي في الاستقرار على سطحها، في الثبات على رفض «الليبل» الطائفي أو الديني، والاعتراف، في دولتي المدنية، بالصفة المواطنية فقط لا غير. اتضح أنني بعبطي قد باعدت طريقي عن الحقيقة، لست فقط أحتاج إلى «عنوان» ديني، ولكن آخر «عرقي». فجذورك التي ليس لك فيها فضل هي ما يحميك، منبتك المدفون في أرض ماضيك هو ما يعطيك قيمة، وأنا على ما يبدو «سومي» منخفض هذه الأيام في وطني الذي يبيعني نوابه ثم حكومته كل يوم برخص وفجاجة.
أصول عائلتي من إيران، ولكنني أعتقد أن نظام ملاليها نكبة المنطقة، فهل يجب علي بسبب من انتمائي العرقي أن أؤيد نظام الملالي الإيراني الحالي؟ ما الغرض من ذكر مسؤول بحجم وزير الانتماء العرقي «لمعظم» أهل الكويت؟ هل الولاء يبنى على جذور عرقية أم مواقف مبدئية؟
شمس الصباح أصبحت حارقة، الغبار الذي كنت أتسامح معه يخنقني ويثير جيوبي الأنفية، البرد يخترق عظامي ويؤلمني، سيارتي صامتة في طريقي للعمل، ابتسامتي مصطنعة، حلقي جاف، وقلبي ينبض برتابة لم أعتدها. الإعلام يهدر راقصاً على طائفية فاجرة، الأخبار تتوالى من البحرين واليمن وليبيا مخضبة بحمرة مفجعة، إخواننا البدون يخرجون من معتقلاتهم بقصص عن وحشية فاحشة تزدري كل القصص والفضائح المكشوفة السابقة. الكل يكرر ذات الجملة الباهتة «كلنا كويتيون وما عندنا طائفية»، ثم يأتي بأقلامه ليلون الأحرف، ويضيف على الكلمات، فكلنا كويتيون تصبح «كلنا من هذا الأصل وهذا الفخذ وهذا المنبت»، وما عندنا طائفية، تصبح «ليت الله يزيل الطائفة الأخرى من وجه الدنيا».
لأول مرة أشعر بهذه الوحشة في الكويت.
أريد اعتذارا من وزير الداخلية «حتى لو أصبح سابقا»… اعتذارا واضحا ومباشرا، ويا حبذا لو يكون شخصيا كذلك.