اسمع
تسحبت خطوة بخطوة أقترب منه، وقفت عند يد كرسي مكتبه، مددت يدي لطرف كم دشداشته البيتية المخططة أتلمس قماشها، رفع لي وجهاً باسما، كيف يا رب تجتمعان هذه الهيبة وهذا الحنان، كيف تلتقي رزانته وهدوءه بهذا الدفق من الحب والرحمة؟ قلت له، في قلبي حنين حتى وأنت قريب، ترك أوراقه وتلفت صوبي، وكما هي عادته، إذا ما علم أن في القلب عصرة وفي الحنجرة غصة، رفع يده إلى رأسي، مسد شعري ومسح على جبيني، وانتظرني أن أقول. قلت، هي أيام ثمينة أيامنا الحالية، لا يمكن أن نسمح فيها بفراق، قال صدقت، ثم انتظر، دائماً هو ينتظر.
هي الحياة لا ترحم، لا تهادن، تمر علينا بسعادتها كأنها نسمة، وتمر علينا بأحزانها كأنها قطار ساحق، قطار لا يرى من إنسانيتنا سوى كوم اللحم والعظم الذي نحن هو في النهاية. حين يمر علي قطار الحزن، أتسحب أنا باتجاه كرسيه. ينتظرني هو بما أتمنى، بغفرانه قبل كل شيء. حاضر هو ليرحم ألمي ويغفر لي، يعلم هو دوماً أنني أحتاج الغفران، فمثلما يحتاج آخرون كلمة حب، لمسة حنان، وردة حانية، هدية قيمة، أنا أحتاج لإنسان يسامحني أذنبت أنا أم لم أذنب، إنسان حاضر بغفرانه مهما بلغ إثمي أو مهما عظم وهمي بوجوده. هو كذلك، بعد ست وعشرين سنة من الحياة المشتركة، هو يفهم لحظة الضعف، لحظة الذنب، يستشعر تسحبي باتجاهه فيعد نفسه لحزني، لتأنيب ضميري، يسمح لي أن أتمسح بدشداشته، أقبل راحة يده، أجلس لصق جذعه الفارع فلا أقول شيئاً، يستمع هو بصبر لا يفرغ لنهنهات لا يدري لها معنى، لا يعرف لها مصدراً، لكنه يصبر، هو لا يسأل، فقط يصيخ السمع لصمتي، لحزني، لشعوري بذنب لا ينتهي، راحة يده على رأسي، مغفرته تحوطني، أحياناً دقائق، أحياناً أيام، يصبر هو معي ولا أعرف لم يصبر، وأستكين أنا إلى جلسته، إلى دشداشته المخططة، إلى راحة يده المفتوحة، إلى أن تمر نوبة الحزن، وأبدأ أنا الحديث من جديد.
في ذلك اليوم قرأت للشاعرة الرائعة فتحية عجلان تسكب حبها لزوجها الشاعر علي الشرقاوي، تناجيه أن يقاوم المرض، أن يعود إليها من آلامه ليبدآ من جديد فتقول له:
علي اسمع
تعلمت الفرح وياك
تعلمت الضحك والآه
رجفة شوق تاخذني
على يمناك
وف زحمة جروحك
صرت أنا يمناك
علي اسمع
قوم انهض خل نرجع
من أول بس أتمناك
تاه قلبي في نداها، أيا علي اسمع، اسمع من أجل فتحية، اسمع من أجل كل امرأة طوت صفحة بعد صفحة من صباها وشبابها، من نضجها وخريفها، في كتاب شريكها. لا تكن قاسيا يا علي، لا تترك فما الترك بلائق بالحبيب الصادق. هل نقضي العمر في معية حبيب، على وقع خطاه، على ملمس دشداشته، على رائحة كف يده، ليتخلى في النهاية؟ كل ترك “تخلي”، كل استسلام “تخلي”، كل بعد “تخلي”، وما التخلي بجدير بشاعر ولا بعاشق. راعني نداؤها، أخذني خوف أناني، غضبت من قدر مخادع وغضبت من سقوطي في الخديعة، لو أنني لم أعرفه، لو أنني لم ألق قلبي في راحة يده، ما كنت الآن هنا، أبلع غصة، أسحب قدماً، أقترب وجلاً، أنتظر ممن أتعذب بخوفي عليه أن يطمئنني، أن يعدني أنه باق أبد الدهر.
عرف هو أن في القلب شيئا، وعرف هو أنه شيء لا يقال، أعلمني بيده التي هبطت على رأسي أنه يغفر لي، مسد شعيرات كانت فاحمة وما عادت، مسح عيناً كانت صافية وما بقيت، حوطتها هالة خفيفة تُشهد الدنيا أن العمر يمر والأحزان لا تتوقف. بقي صامتاً يصدح بحنان لا ينتهي، وأنا أردد في قلبي “رجفة شوق تاخذني على يمناك”، هي يمناك التي ستكون موضع رأسي الأخير، فلا تترك، واسمع.