استعجلت يا عبدالله
نحن بلد شائعاته كثيرة وشفافيته قليلة، تطل علينا الكثير من الأخبار لتختبرنا، لتدرس ردود أفعالنا قبل أن تصبح حقيقة واقعة، ولأن هذا الأسلوب أصبح هو السائد، أي نشر الشائعات لدراسة ردود الأفعال، أصبحنا لا نصدق أي شيء، ونصدق كل شيء في الوقت ذاته، اتخذت الإشاعة مكانها الأقوى في حياتنا وأصبحت تسير أمورنا وتنصبغ بها قراراتنا في ظل غياب أي جهد شخصي للتحقق، وفي ظل صعوبة هذا التحقق أصلاً بسبب تكاثر الشائعات وعقم القرارات الواضحة المكتوبة.
أتذكر مثلاً فترة إشاعة إسقاط القروض، بين (نعم) و(لا)، بين شد وجذب، تناهى الناس لأخذ المزيد من القروض أملاً في إسقاطها اللاحق، فكبرت المشكلة عوضاً عن أن تصغر، وتضخمت المديونيات عوضاً عن أن تأخذ حجمها الطبيعي في بلدنا الغني الصغير. هذه الإشاعات لا تقف عند قصص عن مزايا للمواطنين، لكنها تمس كل مناحي حياتنا، كان هناك قرار إشاعي مثلاً بالسماح للسيارات باستخدام حارة الأمان، ثم “قيل” إن هذا القرار غير موجود، ثم تم تأكيده، فنفيه، فتأكيده، فنفيه وهكذا تحولت الحارة بفعل الكلام الكثير وغياب الشفافية والقرار الواضح المكتوب إلى حارة قيادة فعلية، تحتلها السيارات من كل حدب وصوب، فلا ندري أنشاركهم الحارة أم نلتزم ما تعلمناه في سابق ثقافتنا المرورية.
كل قرارات الدولة تبدو وليدة هذا “التكنيك” الغريب، وهو أسلوب جيد في “تتويه” المواطن أو المقيم وتضبيب طريقه أمام أخذ حقه، فالكثير منا يتوانى عن الشكوى في حال التقصير أو في حال ارتكاب الأخطاء من مؤسسات الدولة، والتي أحياناً تكون أخطاء مميتة، والسبب هو أن الحق ليس بيّناً والخطأ ليس بيّناً، لأن القرارات المكتوبة قليلة وغائمة ولأن طريق الشكوى البيروقراطي طويل ويقطع النفس، وعليه تتوه الحقوق ويبلعها المواطن أو المقيم و”يشتري رأسه”، متخلياً بذلك عن حقه وحق الآخرين عليه في إيضاح الخطأ وتعديله.
الآن، تصل الإشاعات ومنذ فترة عن سياسات تضييقية أكثر عنفاً بحق البدون الكويتيين، والتي ستدخل حيز النفاذ في القادم من الأيام، هناك توجه لإيقاف تسجيل أطفال البدون في المدارس حتى هؤلاء الذين لهم شهادات ميلاد في حال ما إذا كانت هناك أي مشاكل في أوراق الأب أو في حال وجود قيد أمني عليه. هناك حديث عن تسريح أبناء الكويتيات من عملهم والسحب التدريجي لما نالوه من حقوق في محاولة لدفعهم للالتحاق بآبائهم، هناك أقاويل حول سياسة تكتيم متشددة ستأخذ مكانها لقفل أفواه البدون تماماً، لربما أول دلائلها هو ورقة التعهد التي سبق لنا الحديث عنها، حيث لن يسمح لهم حتى بالشكوى اللفظية التي كانت “تميز” بدون الكويت عن بدون بقية الدول الخليجية الأخرى. والآن، لأن الإشاعة غابة نضيع فيها وتضيع الحقوق، بودنا لو طلت علينا الحكومة بوزرائها ومسؤوليها بمؤتمرات صحافية توضح فيها حقيقة ما يتداوله الناس، تضع النقاط على الحروف، وتبين بلغة لا لبس فيها القادم من قرارات ستشكل سياسات الدولة وترسم وجهها المقبل. ويا ريت يكون في مستشارين إعلاميين يساعدون في صياغة المؤتمرات وقيادة الردود حتى لا نأتي على تصريحات مثل سابقاتها، أتت لتكحلها فعمتها.
آخر «شي»:
بالكاد جررت قلمي لأنتهي من مقال اليوم الثقيل لأكتب ما هو أثقل منه، نعياً ما كان يجب أن أكتبه في صديقي وابني، عضو قائمة الراية وطالبنا المبتعث في أيرلندا، عبدالله بهمن، المفروض أن تكتبه أنت فيّ يا عبدالله، استعجلت فحرقت القلب والعين والروح، إنها هذه الدنيا التي لا عدل فيها ولا حكمة ولا هدف، إلا أنك رحلت وما تركت سوى كل ذكرى مزهرة ستبقى تحوم في خاطر كل من عرفك، ارقد بسلام ولدي العزيز.