استر نفسك
عملك الحقوقي يجبرك أن تصارع مجتمعك ومعتقدك وآراءك وأحكامك، فإن لم تستطع فأدبر ولا تقبل، ويبقى أن أبسط قواعد العمل الإنساني وأولاها أن تضبط لسانك وتحسن حديثك على ألا تنسى رداءك الملائكي في كل خطوة تخطوها، وكل كلمة تحكيها وكل نفَس تسحبه، وإلا، فأنت لا تستحق الرداء، فاخلعه، فأنت عارٍ به أو بدونه.
عندما تقرر أن تعمل في مجال حقوق الإنسان بأي صفة علنية أو رسمية، فأنت تتبنى كينونة خاصة جداً، تلتحف رداء ملائكياً ينظر إلى جميع البشر، وأنا أعني جميع البشر، ليس بعين المساواة فحسب، ولكن بعين العطف والرحمة والمحبة وحسن الظن كذلك. هكذا هو العمل الإنساني، وهذا أصعب جوانبه، فإن من يتبناه عليه أن يضع إرثه الثقيل من عادات وتقاليد ودين ومعتقدات جانباً، يضع عداواته على الرف، يبيت أحكامه في الثلاجة، يخطو على ثنايا قلبه، ويدعس على أعمق جراحه متخطياً إياها من أجل المبدأ: الإنسان.
في الفترة الأخيرة، كشفت وسائل التواصل الإلكتروني خللاً خطيراً في هذا المفهوم في مجتمعاتنا، وأكاد أقول إن ما يحدث عندنا على “تويتر” من تراشق بين من يعلنون أنفسهم ناشطين إنسانيين في القضايا المختلفة يجعل الكويت تحديداً على “قمة” هاوية الانحدار الإنساني. إن ما يتبادله بعض الناشطين، خصوصاً ممن ينتمون إلى الجمعيات الحقوقية لهو كارثة أخلاقية وفكرية، تجعل من وجودهم على ساحة النشاط الإنساني خطراً ساحقاً على القضايا ومحاولات حلها. فعلى سبيل المثال علقت فريحة الأحمد تعليقاً بائساً على الناشطين في الحراك المعارض والمقاطع الحالي، هو تعليق لا يختلف كثيراً عما سمعناه يتردد ومنذ زمن، ذات الانحدار اللغوي والتعصب العرقي، إلا أن المصيبة الحقيقية تبدت عندما بدأت الردود تنهال عليها، حيث لا تتجلى المصيبة في ردود العامة، فهؤلاء بينهم العاقل والجاهل، ولا حتى في ردود بعض الناشطين في الحراك، فهؤلاء ناشطون سياسيون، بينهم الحكيم والأرعن، ولكن المصيبة تتجلى في ردود “الإنسانيين” الذين تركوا إنسانيتهم على قارعة غضبهم، فانهالوا على السيدة وهم لا يدركون أنهم إنما ينهالون على مبدئية عملهم ويقتلعون جذور بنائهم، ويحطمون أول قاعدة أساسية في العمل الإنساني: ابقَ إنساناً في وجه البؤس والانحدار والأذى.
من يعمل في مجال حقوق الإنسان يعلي إنسانيته، بل ملائكيته، فيحب أعداءه وينظر إلى الخير الذي يجب أن يكون مختبئاً خلف شرورهم. من يعمل في مجال حقوق الإنسان يدافع ولا يهاجم، يرأف ولا يقسو، يحترم ولا يهين، ومن يعمل في مجال حقوق الإنسان يدافع عن كرامة كل الأقليات مهما كانت قسوة “أقليتهم”، فكل المهمشين والمنبوذين مجتمعياً ودينياً، كل من يلفظهم المجتمع وتقسو عليهم الدنيا ويحاكمهم القانون، يبقى لهم الحقوقي عطوفاً رحيماً مواسياً مؤازراً حتى يضمن أطيب وأعدل وأرحم معاملة لهؤلاء، رضي الساسة أم لم يرضوا، وافق رجال الدين أم رفضوا، رحم المجتمع أم قسا.
نعم، عملك الحقوقي يجبرك أن تصارع مجتمعك ومعتقدك وآراءك وأحكامك، فإن لم تستطع فأدبر ولا تقبل، ويبقى أن أبسط قواعد العمل الإنساني وأُولاها أن تضبط لسانك وتحسن حديثك على ألا تنسى رداءك الملائكي في كل خطوة تخطوها، وكل كلمة تحكيها وكل نفَس تسحبه، وإلا، فأنت لا تستحق الرداء، فاخلعه، فأنت عارٍ به أو بدونه.