اختفاء
هي حياتنا الغريبة المعجونة بالسرية، بالخفاء والاختفاء، بفكرة الخصوصية الكاذبة التي صنعناها لنكنس أسفلها نشارة أفعالنا. من أعلى الهرم السياسي إلى أصغر وحدة اجتماعية في البلد، من الحكومات التي تستدعي السرية أمام كل محاسبة، إلى المجتمع الذي يدعي الخصوصية أمام أي محاولة دراسة وتمحيص لمشاكله، إلى الأسرة الصغيرة التي تختفي قصصها خلف السمعة والشرف والعيب والحرام، كل حيواتنا سرية، يختفي فيها الناس، تتغير فيها الأوضاع، تكمم فيها الأفواه، كل ذلك بحجة السرية وبسلاح الإخفاء والاختفاء.
ولأننا نعيش بمفهوم «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب»، فإن أول ما يخرج من أفواهنا حين ينزل الستار فيختفي إنسان أو تضيع حقوق أو تتهدد حياة هو رفض توجيه أصابع الاتهام، هو المساندة غير المشروطة لقريب الدم هذا. حين اختفى جمال خاشقجي، تسارع العديد من أبناء وبنات العمومة العرب لرفض ااإتهامات الموجهة وللمساندة غير المشروطة، في حين أنه كان يستلزم أن تكون أول الكلمات التي تخرج من الأفواه السياسية هي: نطالب بكشف الحقائق، نرفض التعتيم، نتحرى القصة كاملة، نحمل المسؤولية لأصحاب المسؤولية.
ليست السعودية هي أول دولة تقف أمام العالم المتسائل حول اختفاء صحفيها ولن تكون الأخيرة.
إلا أننا دوماً ما نعلي السمعة على الحق، الخصوصية على الأمن، السرية على الشفافية. ليس خاشقجي أول من يختفي ولن يكون الأخير، وليست السعودية هي أول دولة تقف أمام العالم المتسائل حول اختفاء صحفيها ولن تكون الأخيرة، فتركيا «اللائمة» التي كشفت صدرها آخذة في الدق عليه بكفها منذ انكشاف القصة، لديها من قصص الاعتقال والاختفاء ما يكفي التاريخ العربي الإسلامي ويزيد، أما مصر «المساندة»، ذات التاريخ المرير في مجال المعتقلات والتعذيب والمخابرات، فهي آخذة في ابتلاع أبنائها وبناتها منذ فترة، حتى انقلبت أفراح الثورة إلى جنازات وأحزان. في الواقع ليس لدولة في العالم كله سجل نظيف تماماً في هذا المجال يبيح لها العتب والمحاسبة أو المساندة هكذا دون إحراج، الا أن هناك حالات أفظع من حالات، وإحراجات أشد من إحراجات. وفي هذا المجال، فإن على أمريكا أن تقود حملة تقصي الحقيقة بحكم وزنها العالمي لربما، ولكن على ترامبها، هذا الترامب بالذات، أن يصمت تماماً.
ولكنها الحقيقة، أن دولنا العربية الإسلامية بالذات، تعلي الصمت على المكاشفة، وتستعيض بالخصوصية عن الحقوق، وتفضل السرية على الشفافية، هذه الشفافية التي تحافظ على حياة الناس وتحفظ أمنهم. إن تحدثنا عن إعدامات مصر، وعن سياسات السعودية، وعن تراجعات الكويت، وعن تحالفات العراق، وعن جرائم النظام السوري، قالوا سيادية سرية، شأن داخلي. إن تحدثنا عن انتهاكات حقوق الإنسان في الدول العربية عموماً، عن حقوق المرأة في السعودية، وحقوق المدنيين في اليمن، وعن أمن الثوار في البحرين وسوريا، قالوا خصوصية داخلية. وإن تحدثنا عن الأسر الصغيرة داخل مجتمعاتنا الصغيرة المعتمة هذه، إن قلنا امرأة تقتل باسم قضية شرف، وامرأة تعنف وتضرب وتهان، وامرأة تغتصب من زوجها، ونساء يقرن في بيوتهن باقيات في زواجات سيئة بسبب سوء حالتهن المادية، وأطفال يفصلون عن الأمهات بسبب قوانين الحضانة، وزوجات تعتقل في زواجات بسبب قوانين الطلاق، وصغيرات يتم التحرش بهن، وأطفال يعنفون، قالوا أسرار بيوت وسمعة وشرف لا تخص الحديث العام ولا يجب جلبها كلها إليه.
هكذا هي كل حياتنا، معتمة سرية، تحت خيمة أبوية كبيرة من الخصوصية التي تثقلك بسمعة عائلتك وشرفها، تقسرك بواجب الطاعة لولي أمرك، تلزمك بمشاعر الوطنية المزيفة لوطنك، هذه المشاعر التي ولكي تكون حقيقية، يجب استخدامها لكشف الحقائق ومحاسبة الأوطان لا «للطمطمة» على مخالفاتها والتستر على أخطائها. شرق بعيد نحن، بعيد عن الحضارة والمدنية، غائر في القدم والظلام والضباب، معبق بالبخور والعطور التي تزكم الأنوف وتعتم الرؤية وتعمي العيون وتخدر الحواس، لتمضي حيواتنا تحت شعارات الخصوصية والسرية ومبادئ الطاعة والالتزام والمحافظة على السمعة والشرف، فنحيا لا ندري ما يدور، ونموت وتموت القصص والحقائق معنا. ما زلنا هناك، نعيش في سراديب قصور السلاطين، حيث الخفاء والاختفاء.