إلى ابنتي
أكتب مقالي هذا صباح كتب كتاب ابنتي صوفي، الصغيرة التي صنعتها بدمي ولحمي، التي عجنتها بأفكاري وآمالي وطموحاتي، فيها تجسدت المبادئ والمثل، ومعها وأخيها وأختها تحققت لي معجزة الخلود. اليوم ستصبح زوجة، اليوم ستترك العش، اليوم يوم جديد سيحمل لها تحديات كثيرة وسعادات وافرة، إليها أوجه مقال اليوم، علني أساعدها توازن بين الاثنتين.
اسمعي يا صغيرتي من أمك، أمك التي بدت لك دوماً مختلفة، في اختلافها كان لك معاناة أعتذر عنها وأحياناً سعادة أفتخر بها. إليك خلاصة ما تعلمته من مشواري، فاسمعي. لا تكوني له أمة فأنت لا تريدين عبداً، أنت تريدين صديقاً وحبيباً ورفيق درب. كوني له نداً محباً، كوني رفقة سراء وضراء، كوني قوية، دوماً قوية، فقوة العقل والقلب يا ابنتي هي استكمال جمال الشكل والنفس. تسمعينهم كثيراً يقولون إن الاحترام المتبادل وصون الكرامة هما أهم عوامل الزواج الناجح، وهما فعلاً من أهم المكونات الإنسانية في التعامل مع الآخر، ولكنهما لا يبنيان وحدهما عشاً هادئاً مستقراً. هي المغفرة، هي القدرة على التسامح وأخطاء شريكك، تلك هي أهم عوامل الزواج الناجح. كلنا نخطئ، كلنا نقسو وكلنا قادرون على جرح الآخر إلى أعماقه، ولكن هل كلنا قادرون على المغفرة، هل كلنا متمكنون من رؤية دافع الآخر، خوفه، حزنه، جرح نفسه الذي لربما دفعه لخدش الاحترام المتبادل؟ كوني قوية في غفرانك يا ابنتي، واعلمي أن المغفرة والرحمة هما أهم مكونين لإنسانيتك.
ولطالما حوطتك أنا يا صغيرتي بحمايتي، طالما حبستك في قمقم أمومتي، اليوم حان وقت الانطلاق، حان أوان مواجهة الدنيا، وهي مواجهة أنت اخترت شريكك فيها، تحدث قلبك وأيده عقلك فاخترت، الآن هو أوان استثمار الاختيار. اعلمي يا حبيبتي أن الزواج رباط مقدس، مقدس ليس لأنك توقعين ورقة ولكنه كذلك لأنك تبرمين عهداً على نفسك، لأنك تقدمين روحك لآخر على أنها نصف روحه، وليس هذا العهد بقليل. في علاقة الزواج ليس هناك حد للتضحية، ليس هناك حد للحب. لا تسمعي لمن يقول لك أن تحبي بمقدار وتضحي بمقدار وتثقي بمقدار. استمعي لأمك التي أحبت لآخر قدر وضحّت لآخر استطاعة ووثقت لآخر حد، لا شيء أجمل في الدنيا من أن تعطي بكل قلبك ووجدانك حتى وإن أخفق العطاء. المهم أنك أعطيت، المهم أنك حاولت، وفي هذا الانطلاق الوجداني الكامل تكمن الحياة الحقيقية. ستعيشين أضعاف صديقتك الحريصة أو قريبتك الأنانية، ستفتحين لنفسك أبواباً سحرية من السعادة والحب، حب عميق غائر لا يراه ولا يستشعره سوى القادر على ترك بر الأمان والخوض في أعماق قلب الآخر مهما بلغت درجة المغامرة. لطالما أغضبك قولي بأنني أحب والدك أكثر من أولادي مجتمعين، اليوم أدفعك لاتباع خطى أمك، أحبيه يا ابنتي أكثر من محبتك لأولادك القادمين، أخلصي له وثقي به وكوني حقيقية تماماً معه، كوني كما أنت، دون رتوش، فالرجال يا صغيرة، وعلى عكس ما يبدو، يكرهون مكياج النفس على قدر كرههم لمكياج الوجه.
استمعي أي بنيتي، من اليوم سيتغير تعريف الحب بالنسبة لك. ليس الحب بعد اليوم كلمة غزل أو هدية ثمينة أو نظرة توق، الحب من اليوم هو ثقة عمياء وراحة واطمئنان، هو الشعور بيد رجل تسند ظهرك في السراء والضراء، هو التأكد من وجود إنسان قادر أن يحبك بأخطائك وقادر أن يغفر لك مهما عظمت هفواتك. أتعرفين متى أستشعر محبة أبيك في أقصى درجاتها؟ تأتي المحبة متجسدة في الليالي التي يمتد فيها السهر ونحن نمسك أكواب الشاي، نحكي و”ننم” ونضحك لأقصى ما في النفس، تمر الساعات كما الدقائق، لا أنتبه خلالها لشعري الهائش ووجهي المرسوم بالإرهاق، لا أستحي من بيجامتي المكرمشة أو جواربي فاقعة الألوان، كل ما يحضرني هو وجود والدك، ضحكته، إنصاته، نظرة عينيه التي تخبرني أن هذه اللحظة هي اللحظة، هي الحياة، فتنكمش الدنيا في هذه الدقائق، وأصبح أنا رغماً عن بيجامتي وجواربي وشعري وإرهاقي، أميرة ساحرة في حضرة الدنيا بأكملها. كوني أميرته يا صغيرة، دوماً وبكل أشكالك الخارجية، المهم أن تكون نفسك أنيقة دوماً.
اعلمي يا بنية أن الزواج لا يعني ارتباطا برجل، بل هو ارتباط بعائلة، فنحن نتزوج شركاءنا، رجالاً ونساءً، بعائلاتهم بأكملها. إياك يا صغيرة أن تتعسيه يوماً بأبويه أو تتعسيهما به. لا تكوني يوماً مصدر شقاق أو فراق. أحبي من صنعت لك هذا الفتى الرائع كما تحبين من أتت بك للحياة، كوني رحيمة وتذكري أن قدر الكثيرات منا أن يصبحن أمهات، يصنعن رجالاً رائعين يعشقونهن حدّ الثمالة ثم يسلموهن في النهاية لأخريات. فلا تنسي أبداً أن الدنيا دوارة، وأن دورك قادم لتقدمي قلبك، أجمل إنجازاتك في الدنيا، لغيرك، فكوني نسمة في دورة الدنيا العاصفة هذه.
وبعد، اسمعي آخر قولي، من تثق برجل ترقد بجانبه ليلاً لا تخشى على نفسها وأموالها منه نهاراً. لا تستمعي لنصيحة الحذر من زوجك، وكوني شريكة حقيقية له في الحياة، لك ما له وعليك ما عليه. كوني مسؤولة عن بيتك كما مسؤوليته، شاركيه الإنفاق بالعدل والمناصفة، ولا تضعي حاجزاً مادياً يوماً بينك وبينه. إن أردت أن تكوني مساوية له تماماً، فاعلمي أن المساواة تكون في الواجبات تماماً كما هي في الحقوق، واعلمي أن المسؤولية المادية دوماً تقع على صاحب القرار، فإن أردت قرارك مناصفة فتحملي مسؤولياتك مناصفة. كوني واضحة، حقيقية، ولا تلعبي في يوم دور الغموض الذي تلعبه بعض النساء، فليس الغموض من الإثارة في شيء، وليست الأسرار من الإثابة في شيء. كوني كما أنت لينفتح لك قلب زوجك وليصبح واضحاً شفافاً أمامك. إذا حكى لك يوماً عن ماض فشاركيه، واضحكي مع حكاياه، وسامريه الذكريات دون أن تسمحي للغيرة أن تأخذ عليك قلبك، فماضي الإنسان ملكه وحده، ليس لك فيه حق ولا حكم. إذا مازحك بجمال أخرى يوماً فبادليه الضحكات، كوني له صديقة في هذه اللحظات، ستكونين أجمل وأنت أكثر ثقة وسيكون هو أكثر صراحة ووضوحاً. إن أقوى العلاقات يا بنيتي هي علاقة الصداقة، فاصنعي حبك بعجين الصداقة، افتحي قلبك، أعلني ثقتك، أظهري حقيقتك، أحبي لآخر مدى، اضحكي لآخر مدى، عبّري عن نفسك لآخر مدى، هكذا ستكون الحياة أجمل وأصدق.
آه يا بنية، ألا يا حرقة القلب لحظة العطاء. أهبك اليوم لعبدالعزيز، هذا الفتى الرائع الذي يستحقك وأنت تستحقينه. المهم أن تبقيا تستحقان، تبقيا تحبان، تبقيا حقيقيين مع بعضكما البعض لآخر لحظة. قد بلغتك، وقد أوصلتك لبوابة أول الدنيا، فمدي يدك وافتحي الباب، في أمان الله يا صغيرة، في أمان الله.