«إذا عرف السبب»
كيف يلتصق الدين بمجمله بشخص أو شخوص، فيصبح الحديث عنهم تناولاً للدين، ونقدهم ازدراء له؟ والسؤال الأهم والأخطر والأكثر صعوبة هو: لمَ يعتبر أي نقد ديني، حتى لو كان ساخراً أو قاسياً، ازدراء؟ ألسنا جميعاً بشكل أو بآخر ننتقد ما نختلف معه بأدب أحياناً وقسوة وسخرية أحايين أخرى؟ لمَ هو الدين فقط، وهو الذي يستوجب أن يكون الفلسفة الأقوى والأكثر قدرة على المواجهة والأوسع صدراً للنقد حتى تتسع المساحة للإقناع كما كان يفعل الرسل، أقول لمَ هو الدين تحديداً الذي أصبح لا يحتمل أي نقد حتى يتحول إلى ازدراء وإهانة؟
ولكن، هذا سؤال لن يكون له جواب، ولربما يثير وابلاً من الغضب فوق الغضب، فعندنا عندما لا يجد الغاضب من أجل دينه جواباً فإنه يثور لحرمة السؤال واستحالة الإجابة، ويبقى السؤال معلقاً مثل المرأة الناشز (وتلك معضلة أخلاقية أخرى)، لا هو مباح الإجابة عنه، ولا هو ملغى تماماً، بل يدخل خانة الأسئلة التي لا إجابة عنها في هذه الدنيا ويحرم تداولها. إذاً، لعل سؤالاً كهذا سيقابل بالصراخ، فلنعد إذاً إلى ما قبله، والذي قد يقابل بارتفاع ملحوظ في الصوت: ما الذي يجعل نقد شخص يتلبس الدين ويأخذ شخصيته نقداً أو سخرية للدين؟ مهما علا شأن هذا الإنسان، ومهما بلغ مبلغ “علمه” (وتلك كذلك معضلة أخرى) فما الذي يضفي عليه قداسة ليصبح نقده والسخرية من فكرته الجامحة ازدراء للدين وإهانة له؟
انتشر قبل فترة كتاب لحمد العثمان بعنوان “الغوغائية هي الطوفان”، والكتاب مخطوطة كبيرة فيها من كل مصدر ممكن ما يدل على وجوب الرضوخ التام حد “الموت الزؤام” للحاكم مهما بلغ طغيانه؛ لأن ذلك أسلم وأكثر ثواباً للمسلم على حد الرسالة العامة للكتاب. في صفحة 134 يستشهد الكاتب بقول الإمام أبو بكر الآجري الذي ساقه الأخير توضيحاً لمقولة الخليفة عمر بن الخطاب “دمي دون ديني”، يرمي منها أن الخليفة لا يعني مقاومة الحاكم، بل، كما يقول الآجري، إن سأل أحد عن “الذي يحتمل عندك قول عمر رضي الله عنه؟ قيل له: يحتمل- والله أعلم- أن نقول: من أُمّر عليك من عربي أو غيره، أبيض أو أسود، أو أعجمي فأطعه فيما ليس لله فيه معصية، وإن حرمك حقاً لك، أو ضربك ظلماً لك، وإن انتهك عرضك، أو أخذ مالك، فلا يحملك ذلك على أن تخرج بسيفك حتى تقاتله، ولا تخرج مع خارجي يقاتله، ولا تحرض غيرك على الخروج عليه، ولكن اصبر عليه”. وعند كلمة “انتهك عرضك” وضع الكاتب ملاحظة هامشية تقول: “بالنهك السب والشتم”. (134).
على إثر ذلك، كان للمغرد “بو عسم” تغريدة يشير فيها إلى سحب جنسية نبيل العوضي ويربطها بالمقطع أعلاه الذي ورد في كتاب العثمان وتحديداً جملة انتهاك العرض، لا تختلف التغريدة في أسلوبها عن الأسلوب العام للمغرد ولا تخرج في لغتها عما انتشر في “تويتر” عموماً، وفي موضوع كتاب العثمان.
وهذا المقطع منه خصوصاً. “تويتر” فضاء مفتوح، فيه النقد الساخر والجاد، المؤدب والرخيص، ولكن كلها، ما دامت لا تهدد ولا تدّعي كذباً، تدخل في نطاق الرأي، حسن أو ساء، تأدّب أو أسرف، فإذا ما انتقد المغرد كاتب الكتاب واستعرض رأيه بسخرية، فكيف يصبح ذلك ازدراء للأديان يستحق أن يسجن بسببه؟ ومتى أصبح السيد العثمان، مهما بلغ شأنه، ممثلاً للدين حتى أصبح انتقاد رأيه ازدراء لهذا الدين؟ ولمَ الآن ولأي سبب هذا المغرد تحديداً مع أن “تويتر” يمتلئ بسخرية أقسى وإشارات أمضى ومن وقت أبعد تجاه الموضوع ذاته والكتاب ذاته والجملة ذاتها؟
ترى، ما الذي يزدري الدين أكثر، تغريدة من 140 حرفاً مهما قست ورخص أسلوبها أم كتاب كامل يقول، وباسم الدين، بالرضوخ التام للحاكم الظالم حتى إن “انتهك عرضك؟”، يبدو جلياً أن الموضوع له علاقة بنشاط المغرد المعارض، وتلك مصيبة، وإذا ما كان الموضوع ليس بذلك وكان فعلاً له علاقة بازدراء الأديان فالمصيبة أعظم، فلقد ربط الدين بشخص، وأصبح انتقاد قوله هو ازدراء للدين، والأدهى والأمرّ أن قوله هذا يستحق النقد، ولربما يستحق المحاسبة، على الرغم من أنه ناقل عن “عالم” آخر غيره، فقد نقل في سياق الحث والتأكيد، وما يحث ويؤكد عليه يخالف القوانين المدنية ومبادئ حقوق الإنسان بل المنطق البسيط، فما الذي قلب الموازين وجعل مما يقوله حمد العثمان، وهو من تيار السلفية الجامية، هو لب الدين وانتقاده هو ازدراء له؟ أم أن المشكلة مكانها مختلف، لربما في شخص المغرد وليس في قوله؟ ها هنا يبطل العجب.