أي سلام هذا؟
نعم بالتأكيد كلنا نطمح للسلام لوقف الاقتتال وإطلاق النار، ولكن هل يمكن أن يستتب السلام وخلفك تاريخ مليء بقصص الاحتلال والتشريد والتهجير والاستيطان والإبادة والفصل العنصري، وأمامك مستقبل مليء بالتهديد والوعيد والمزيد من المسح الممنهج لعرقك وأصلك وانتمائك، ويحوطك حاضر ملون بدماء أهل بلدك وملوث بمفهوم البقاء للأقوى الذي خول لغرباء أن يسكنوا بيتك بشريعة وضع اليد؟ المعضلة ليست في إقناع «إسرائيل» باتفاق سلام، فهذا اتفاق سيمشي على هواها ويخدمها ويريح «مواطنيها»، المعضلة هي في إقناع أهل الأرض الأصليين في أن يتنازلوا عن ثلاثة أرباع أرضهم من أجل سلام مزعوم ومع وحش لا يعرف الارتواء. تذكركم هذه القصة بشيء؟ ربما معاهدة الأرض مقابل السلام بين أمريكا والمكسيك، التي خسرت فيها المكسيك ما يقرب من ثلث أراضيها؟ هل حل السلام اليوم بين أمريكا والمكسيك؟ لربما تم وقف إطلاق النار، ولكن هل فعلاً حل السلام؟ هل استتب الأمر بالمكسيكيين المسروقة أرضهم إلى شيء من الرضا والهدوء؟ مازال المكسيكيون يخاطرون باختراق الحدود كل يوم، ومازالت أمريكا تبني جداراً عازلاً بغيضاً بين أناس وأراضيهم السابقة، فأي سلام فعلي تحقق للناس؟ لقد كانت حرباً موصوفة هكذا: الحرب التي لا يتذكرها الأمريكيون ولا ينساها المكسيكيون، وهل ينسى الناس أرضاً زرعوا فيها حباً واقتُلعوا منها غصباً وعنفاً وبُغضاً؟
غريب، كيف تفكر العقول العنصرية بأسلوب متواز، فمن جدار برلين إلى جدار أمريكا إلى جدار إسرائيل، كلها جدارات تعبر عن ذات الفكرة البشعة بذات المبررات العنصرية. وعجيب كيف تنحو الأرواح المقهورة المنتكهة بشكل متشابه، فمن الألمان الذين لم يهدأوا إلا بسقوط جدار برلين، إلى المكسيك الذين لا يزالوان يقاومون الجدار العنصري ويخترقون الحدود المشددة توقاً لأرض وماء كانا لهم ذات يوم، إلى الفلسطينيين الذين يحيون ويتزوجون وينجبون ليؤسسوا جيشاً شعبياً من الداخل يحارب ويقاوم ويناضل، ولو ما بقي لديه سوى حجارة أرض بلده يقاوم بها. هو قانون الحياة، للبشر ذاكرة قد تخفت مع مرور الزمن لكنها لا تمحى، وللتاريخ -رغم أن من يكتبه هو المنتصر- أرشيف لا يمكن أن يختفي، وللحقيقة خلود لا تستطيع الأكاذيب بكل آلاتها المتطورة أن تنهيه. فهل يمكن أن يتخطى الفلسطينيون الذاكرة والتاريخ والحقيقة ليعبروا إلى سلام مفصل على مقاس العدو؟
نشرت جريدة «نايشون» مقالاً لمحمد الكرد يحكي فيه عن قصته مع الاحتلال، ولسبب ما علقت قصته بذاكرتي منذ أن قرأتها قبل أيام، بل هي تزورني أحياناً في الأحلام أو تهاجمني مناظرها التي صورها خيالي فجأة في منتصف يومي ودون مناسبة. ليس في قصة محمد شيء مختلف، لكن كلماته وتوقه لماض كان، وقلقه المعجون بالحزن على مستقبل آت، كلها تمس أعمق المشاعر الإنسانية المتجذرة فينا كبشر. لن أحكي قصته الطويلة الكاملة التي رواها، لكنني سأخبركم بهذا المقطع الذي صوره لقرائه والذي لا يريد أن يغادر خيالي أبداً. في سنة 2009 أتى المستوطنون محميين بالجنود المسلحين ليستولوا على بيوت أُسْرَتَي غاوي وحنون، وكذلك نصف بيت أسرته هو. «منذ ذلك الوقت، يقول محمد، كل ما كان يفصل بيننا هي ألواح الجص والأغطية المعلقة على حبل الملابس. الأغطية موجودة لتحجب مضايقات المستوطنين تجاهنا. كانوا كثيراً ما يتعمدون التعري عند الشبابيك أو يبصقون بكلمات شتائم عربية قبيحة علينا. لقد شاهدتهم مراراً وهم يضربون كلبهم قبل أن يطلقونه باتجاهنا». يستمر محمد في استرجاع ذكريات طفولته المنتهكة تلك المسبوقة بذكريات خلابة لفترة ما قبل الاستيطان، حين كان يقود دراجته في شوارع حيه لاعباً مع صديقه أحمد، ليجلسا على «الصخرتين الكبيرتين ونحلم بالمستقبل». اليوم أحمد في غربة، يسترجع خلال أيامها ذكريات حارقة لغرباء أتوا في لحظة ليدفعوه وأسرته إلى النصف الخلفي من بيتهم معزولين بأغطية وجدران جص ليعيشوا عيشة اللاجئين في باحة بيتهم بحد ذاته، يتعذب فيها بخبر عودة المزيد من هؤلاء اللصوص ليطردوا عائلته من الجزء الذي تبقى من بيتهم، ليشردوا والده ذا 76 عاماً ووالدته، دافعين بهم ليحيوا في خيمة في الشارع، الآن، في ظل وباء قاتل يجتاح العالم. كيف لنا أن نتعامل مع هكذا قصة؟
أحياناً أقف في قلب بيتي، أتخيل أن يأتي غرباء فيعزلوني في نصفه، ليغيب عني مطبخي وغرفة نجارة زوجي وصالتي الصغيرة، وربما غرفة من غرف نوم أبنائي. يحترق داخلي بهذه الصورة المتخيلة، تشتعل جوانبي وجعاً لتخيل أن هذا البيت الصغير الذي هو كل ما أملك والذي هو كله لي، قد احتوى غرباء غيري، دخلوه عنوة واحتلوا أماكنه المرتبطة بروحي بلا أي مسوغ أو حق. يخيل لي أن حدثاً كهذا قد يقتلني، أن التوق لأماكني ولذكرياتي فيها قد يأكلني من الداخل فلا يبقي مني نَفَساً. فكيف بعائلة محمد، التي طردت من نصف بيتها في يوم أسود من سنة 2009، لتعيش خلف الأغطية وجدران الجص الهزيلة في نصف معزول من كلٍّ كان ذات يوم ملكها؟ كيف ستكمل هذه العائلة المسير حين يأتي المزيد من المستوطنين ليسرقوا ما بقي من البيت لتنتهي العائلة إلى خيمة؟ أتخيلني أنا، قد لا يقتلني البرد أو الحر أو الجوع أو قسوة حياة الخيمة، سيقتلني الحنين، سيذبحني ببطء اشتياق أكاد أستشعره اللحظة في خيالي يتمدد في روحي كأنه سم قاتل، سأموت كل لحظة من كل يوم وأنا أتخيل غرباء يعيثون جيئة وذهاباً في غرف بيتي وفي مطبخي وغرفة جلوسي. الفلسطينيون يعانون من هذا التوق القاتل ليس لبيوتهم فقط، وليس لمدنهم وقراهم فقط، وليس لقدسهم فقط، إنهم يعانون التوق لكل الوطن ولذكرياته ولحريته ولجماله وروعته التي كانت، لشوارعهم ومزارعهم وسهولهم ووديانهم وبيوتهم وغرفهم وأسرتهم وأدرج خزاناتهم التي كلها ترضخ الآن تحت أيادي المحتلين يعيثون فيها فساداً دون اعتبار لتاريخ أو حق أو خصوصية أو حرمة. أي تعذيب هذا أمام مرأى وعلى مسمع من العالم أجمع؟