أيتها الساحرات
ذات زمن، له آلاف السنوات الآن، مع مطلع فجر جنس البشرية، كانت المرأة معجزة الحياة، كانت أنثويتها تميمتها ودماؤها دليل إعجازها.
عبدت البشرية المرأة، كأول كينونة إلهية، مع بدايات تشكل الوعي وتطور التفكير وذلك تجاوباً مع قدراتها الجسدية الخارقة: هذه الكينونة التي تُخرج من جوفها الحياة وتُكاثِر بجسدها البشر في أزمنة كان جنسهم مهدد خلالها بالانقراض، هذه الكينونة التي تدمي شهرياً ولا تموت، يخرج جوفها المعجزات ويتحمل جسدها الآلام والأحمال والأثقال، لتعود بعد كل ذلك كائنة حية متكاملة فاعلة من جديد.
اعتقدت البشرية فعليا بألوهية الأنثى، ونصبتها إلهة عظيمة لتنعكس قدسيتها على الأزمنة اللاحقة، حيث نجد انعكاس ألوهية الأنثى على الأديان القديمة، في شخوص الإلهات المهمة البارعة في الحضارات الغابرة، وصولاً إلى بعض الصور والعلامات في الأديان الحديثة، فها هو السيد المسيح يأتي من أنثى بمفردها دون تدخل من ذكر، وها هو امتداد النبي محمد يتحقق بالامتداد السلالي الأنوثي لا الذكوري.
هذا ولا تزال البشرية تعج بعلامات تقديس الأنثى متمثلاً ذلك في صور فنية وكتابية وسلوكية لربما يتعذر ذكرها، لخطورة بعضها، في غير مجالها البحثي الرصين.
ذات زمن انقلب الزمن، وتحولت الإلهات الأنثوية إلى آلهة ذكورية جبارة مرعبة كان أولها زوس الإغريقي الذي ثبت الصورة الذكورية المهيمنة للإله والتي سادت بقسوة من بعده.
لم تكن هذه الآلهة الذكورية طيبة منتجة، لم تكن كما الآلهة الأنثوية، خصبة معطاءة، ترمز للحياة والكثرة والجمال والحكمة، كانت آلهة قاسية مرعبة، أساطيرها تدور حول الحروب والاقتتال، منهجيتها التخويف، ديدنها التهديد، لتتبدى قسوتها أول ما تتبدى تجاه الإناث التي سادت والتي بدا أنها على وشك أن تبيد. حتى في الأديان الحديثة، انقلبت قصة الذنب الأول للخروج من الجنة على النساء حتى تحولن إلى رمز للمعصية والإغواء والآثام والذنوب.
تفننت الحضارات المختلفة في إراقة الدماء التي كانت مقدسة ذات زمن، فقُدمت النساء كقرابين على الأضرحة، كعطايا في جوف الأنهار وكأضحيات في أعماق الأرض، ليتحول إعجازها الذي كان ذات يوم إلى دليل إدانة ولتتشكل قدسيتها عبئاً وخطراً على حياتها. ثم انعطفت الحياة بهذه الأنثى المقدسة انعطافاً حاداً خطيراً، حين تشكلت حملات إبادة جماعية ممنهجة ضدها، لربما أشهرها، وإن لم تكن أشنعها، مجازر”ساحرات” سيلم إبان القرن السابع عشر، حين أخذ البيوريتانيين في أميركا بقتل النساء بدعوى امتهانهن للسحر، فعُذبت وأُغرقت وأُحرقت كل من خالفت السائد، من امتهنت الطب مثلاً أو عالجت بالأعشاب أو حتى هذه التي رفضت الزواج أو تخلت عن سبل الأنوثة التقليدية.
كان الكشف عن “الساحرة” يقتضي إجراء فحوصاً مهينة فاحشة تستبيح أجساد النساء، وصولاً إلى الاختبار الأخير بوضع أحجار ثقيلة في جيوب المتهمة وربط يديها وقدميها ورميها في النهر، فإن غرقت، فهي بريئة وإن طفت على الماء فهي ساحرة تحرق على عمود النار، ميتة هي في كل الأحوال.
إلى اليوم لم تتوقف الدماء، إلى اليوم لم تخمد المحارق ولم تهدم المقاصل. إلى اليوم والساحرات الخلابات يدمين في كل مناسبة لكي تستمر الحياة، لتعج الأرض بالمزيد من البشر الذين يحملون أسماء وامتدادات الذكور.
إلى اليوم والأنثى تقتل إذا أحبت، تقتل إذا تحررت، تقتل إذا اختارت، وأحياناً تقتل إذا تكلمت أو ظهرت. على أضرحة شرف الذكور لا تزال النساء تقدم كقرابين، لا تزال دماؤهن تراق لتغسل عار معاركهم، لا تزال أجسادهن تدفن ثمناً لتطهير سمعاتهم. لا زال “الذكور” يحرقون الإناث “المختلفات” على عواميد النار، يغرقوهن في الأنهار طلباً للخير والرزق، يئدوهن في التراب دفناً للعار، لا يزال كل ذلك ببشاعته وحقارته وغبائه يحدث، كل ما تغير هو “التكنيك”، ومن لم تقطع رقبتها المقصلة أو تحرق جسدها النيران، تخترق قلبها طلقة مسدس أو تنغرس في خاصرتها سكين. تعددت الأشكال وفحش قتل المرأة بحجج الشرف والسمعة والكرامة لدي فاقدي الشرف والسمعة والكرامة واحدة لا تتغير.
لابد أن تثور النساء ثورة خلابة لا تنتهي سوى بموتنا جميعأً أو حياتنا جميعاً. لابد أن تتحرك إناث العالم كله في موجة تسونامي واحدة قاهرة تغسل هذه الأرض من العنف والقهر. لابد أن نصبح “نحن” النساء، أن يجمعنا جنسنا لا التقسيمات الأخرى التي فرضتها الذكورية الشوفينية علينا. أن تختفي بنات جنسنا أمامنا كل يوم تحت التراب على أيادي فاقدي الشرف والكرامة في محاولة منهم لاستعادتهما بتقديم أنثى قرباناً لهما فهذا ما لم يعد من الممكن السكوت عنه.
كل يوم قصة، من كل زاوية حكاية، هنا أخ قتل أخته لأنها أحبت، وهناك أب نحر ابنته لأنها لم تتغطى، وبينهما زوج أطلقه رصاص مسدسه على زوجة تشكك في مسلكها. حقيقية هذه “التهم” لا يجب أن تعنينا في شيئ، صدقت أم كذبت هذه التهم، فحشت أم اتقت هذه المرأة، فإن المستوجب منا هو أن نثور جميعاً لكل هذه النساء “المذنبة” منا قبل البريئة، أن نحميهن ونحمي أنفسنا “الفاسقة” منا قبل “الطاهرة”، دماؤنا جميعاً، بكل تصنيفاتنا الأخلاقية والمجتمعية، حرام مقدس على الجميع. نحتاج أن نتحرك كنساء، أو نثور، أن نغضب، وأول ثوراتنا وغضباتنا يجب أن تكون على المفاهيم التي زُرعت في داخلنا ضد جنسنا، على الأفكار التي غسلت أدمغتنا محولة إياها من أنثوية خلاقة محبة للحياة إلى ذكورية تهديدية حادة التوجه، على “المَلاك” الذي فرض علينا أن نكونه وقد لا نريد أن نكونه، على الأمومة القسرية، على الأدوار العصابية، على المسكنة المهينة، على الوصاية الكريهة، على المخاوف والذنوب التي نولد بها كإناث ونأخذها معنا إلى قبورنا إذا ما كتب لنا أن نتمم حيواتنا.
نريد أن نحمي بنات جنسنا؟ علينا أن نتحرر ونحررهن من الخوف، من الشعور العصابي الملازم لنا بالذنب، من أحمال مفاهيم الشرف والسمعة التي علقت في رقابنا أحجاراً ثقيلة منذ بدئ الحياة وإلى الممات حتى انحنت منا الأرواح قبل الظهور، من هذه التعريفات القطبية الحادة الغابرة: إما أنت أماً طاهرة أو متحررة فاسقة فاجرة لا منتصف بينهما، من هذا الملاك المفروض علينا، المزروع في خواصرنا شوكة تلكز أرواحنا كلما فكرنا في أنفسنا، وكأننا خلقنا لنضحي فقط، لنخدم الآخرين فقط، ولنزيد أعداد البشرية ولنحتضنها ولنربيها ثم لنموت بجناحي الملاك يلتف حولها. آلاف السنوات وأنتم تقتلون “الملائكة”، ترمونهن في الأنهار، تحرقوهن على العواميد، تجزون رؤوسهن على المقاصل، اليوم حان الوقت للدفاع عن النفس، لوقف حمامات الدم، لحماية الملائكة. اليوم هو اليوم الذي تتحول فيه تلك الملائكة حقيقة إلى…ساحرات.