أنا ومعزاتي
في بلداننا العربية تأخذنا حماستنا القومية الساذجة، لتكبس على أنفاس العقل والمنطق، ولتقدم الغضب والاندفاع والتهور كردود أفعال لكل نقد يمكن أن يصل بلداننا ومجتمعاتنا.
نعتقد نحن أن الغضب ولذاعة اللسان هما أسلحتنا في الدفاع عن أوطاننا، فنرغي ونزبد وندعي لأنفسنا بانتصارات وهمية، رافضين كل نقد وكل محاسبة اللذين نراهما تواطؤاً وعداءً وخيانة. لازلت أتذكر ردي الفعلين العربي والصهيوني تجاه حرب إسرائيل ضد حزب الله ولبنان، في 2006، والتي ثارت على إثر اختطاف حزب الله لجنديين إسرائيلييين من على الحدود اللبنانية الفلسطينية، وهو رد الفعل الذي يلخص أسلوبنا العربي المسكين في التعامل مع معضلاتنا.
على إثر حرب 2006 هذه، أصدرت إسرائيل تقرير فينوغراد والذي تقول فيه: “هذه الحرب شكلت إخفاقا كبيرا وخطيرا، لقد كشفنا وجود ثغرات خطيرة على أعلى المستويات الهرمية السياسية والعسكرية” وذلك بحسب موقع قناة الجزيرة في خبرها المنشور، في 31 مارس 2011. ماذا فعل حزب الله كرد فعل على هذه الحرب؟ نزل أعضاء الحزب إلى قانا يحتفلون “بالنصر الإلهي” ودماء ما قد يزيد على 27 طفلاً قتلوا في هذه الحرب لم تجف بعد، والبنية التحتية للجنوب قد تهدمت تماماً، والسياحة، التي هي رئة لبنان، قد أصابها شلل تام.
هكذا نحن، لا استثناء في ذلك لأحد من أمتنا العربية، نعتقد أن انتصاراتنا تتحقق إذا ما نفينا مشكلاتنا، إذا ما قاومنا بقسوة وغضب، وأحياناً وقاحة، كل الانتقادات التي قد تردنا، إذا ما كتمنا نحن بذاتنا انتقاداتنا ولم نتفوه سوى بالمديح المبالغ الممجوج لأوطاننا، أوطان تتحكم فيها قلة قليلة بمصائر كثرة غالبة يتم ترويضها وإرضاخها من خلال المفاهيم البائدة للولاء والطاعة والإخلاص للوطن عن طريق كتم أسراره ووضع غسيله النتن “أسفل المرتبة”.
من أكبر معضلاتنا إلى أبسط مشاكلنا، شعارنا هو اكنس المشاكل تحت السجادة: “استر على ما واجهت” كما نقول في منطقة الخليج، و”ربنا أمر بالستر” كما يقولون في منطقة البحر الأبيض المتوسط. المهم أن نبقى نرفع الشعارات اللامعة.
وقبل أيام قرأت مقال في الغارديان بعنوان “نحن نشهد جريمة ضد الإنسانية: تكتب أروندهاتي روي حول كارثة كوفيد في الهند” حيث يتناول المقال في بدايته صور التعالي والرعونة التي تعاملت بهما الحكومة الهندية مع فيروس الكورونا، ذات الحكومة، تشير الكاتبة، التي تضطهد المسلمين وتبث التفرقة بين الهنود.
تذكر الكاتبة أن الواشنطن بوست قد طرحت سؤالاً في افتتاحية قريبة لها “هل يمكن عزل الهند بتعدادها الذي يصل إلى 1.3 مليار نسمة؟” لتجاوب نفسها “ليس بسهولة”. يؤكد الكاتب أن السؤال ذاته لم يتم طرحه بذات الطريقة حين كان الفيروس يعيث فساداً في بريطانيا وأوروبا قبل ذلك بأشهر قليلة.
“لكننا في الهند ليس لدينا كثير الحق بأن نشعر بالإهانة، بالنظر إلى كلمات رئيس وزرائنا في المنتدى الاقتصادي العالمي في يناير من هذه السنة.” تكمل روي قائلة: “مودي تكلم في وقت كان فيه الناس في أوروبا والولايات المتحدة يعانون خلال ذروة الموجة الثانية للوباء. لم يكن لديه كلمة تعاطف واحدة ليقدمها، فقط تَشَدُّق طويل شامِت حول البنية التحتية للهند والاستعداد لمواجهة فيروس كوفيد”.
اليوم، تُرى كيف يمكن لناريندرا مودي مواجهة الوباء الذي اشتعل في الهند كالنار في الهشيم متوائماً مع نقص حاد في الأوكسجين والاستعدادات الطبية؟ يقاوم مودي ذلك، كما يشرح روي باستفاضة، بسجن وقهر وإسكات الناقدين ومعايرة المتألمين بأنهم أطفال لا يتحملون ولا يؤدون أدوارهم المطلوبة.
يبدو أننا لسنا الوحيدين في شرقنا الأوسط الذين نعاني من أزمة التعالي الحكومية، لكن الفرق قد يكمن في أن الشعب الهندي، في الأغلب الظاهر، يعي معنى النقد لدولته وعدم تعارض هذا النقد مع حب الوطن، يفهم أن التنبيه والتحذير والنقد والتقريع وفي الصحف العالمية كذلك ليسوا فقط حقه ولكن واجبه أيضاً إبّان هذه الأزمة الإنسانية العنيفة.
هذا المقال ذكرني بالوضع المصري ورد الفعل العنيف لمعظم الشارع الذي قابل به أي نقد لتراخي الحكومة في تعاملها مع الوباء. لشهور ظلت القيادة المصرية تمتدح نفسها وسياساتها في محاربة الفيروس والتي جعلت منها، على ما نقلت بعض الصحف على لسان بعض المسؤولين، مثالاً يتطلع إليه العالم في التعامل مع الكارثة.
تَمَدَّد هذا التعالي الحكومي الأرعن إلى الشارع وصاغ رد فعله، فحين انتقد البعضُ، وأنا منهم، إقامة حفل نقل المومياوات في هذا التوقيت الحرج صحياً واقتصادياً، حيث تفاديت أنا ذكر “أخلاقياً” والتي هي النقطة الأهم من حيث أنه تمت إقامة الحفل ولم يمر على حادثة سوهاج التي توفى فيها ما يزيد على 20 شخصاً أكثر من تسعة أيام، انقلبت الدنيا وتوالت ردود الفعل المصرية الحانقة الشاتمة، سواء من الحسابات الوهمية أو الحقيقية، بشكل يثير الهلع فعلاً.
كانت الثورة الإلكترونية، والتي هي بالتأكيد لا تمثل فكر كل أهل مصر لكنها تمثل خطابها السائد المستبد، دلالة التغييب التام لمفهوم حق الناس على وفي بلدهم ولمعنى النقد والطريقة المنطقية “المصلحية” في التعامل معه والرد عليه. انفجرت غضبة ساحقة تتهم كل ناقد بكراهية مصر وبالحقد عليها وبالتعالي على أهلها وما بقي إلا “أنا ومعزاتي”، في إشارة لصحراوية الأصول، لنأتي على نقد هذه الحضارة العريقة. رد فعل حزين من حضارة عريقة في تاريخها السياسي فعلاً، ترى كيف تحول أهل مصر، في أغلبية تشكل ظاهرة، لهذا النوع من الولاء غير القادر على الإبصار؟
والآن، كيف ستكون ردة الفعل تجاه إعلان حالة الطوارئ بل والهمس باحتمالية نزول الجيش للشارع؟ هل سيستطيع الشارع المصري أن يعترف بالخطأ ويحاسب القيادة أم أن “العزة ستأخذ بالإثم” ولو على حساب الأرواح والأمن والأمان؟ هل سيراجع الشارع المسيرة ويقطع الحق من نفسه ويقر بأن الأسلوب الذي اتبعته الحكومة المصرية في محاربة الكورونا لم يكن خارقاً ولا إعجازياً، إنما اقتصر على “إعمل نفسك مش شايف” إلى أن استفحل الأمر ووصل إلى كل شارع وبيت؟ مساءلتكم للقيادة لا مساس فيها بمفهوم الإخلاص للوطن ولا ابتعاد بسببها عن الأعراف الديموقراطية التي أنتم الأعرق في ممارستها عربياً، مساءلتكم ليست عداءً للجيش أو مساندة لنظام الضد، مساءلتكم واجبة عليكم تجاه النظام الذي تحبون، “مش كل حاجة مؤامرة إخوان” يا أهل الكنانة.
يقول روي في مقاله: “الآن وقد تبين أنه (أي رئيس الوزراء) لم يحتويه (أي الوباء)، هل يمكننا الشكوى من أنه يتم اعتبارنا كما لو أننا مشعين نووياً؟ أن حدود الدول الأخرى تغلق في وجوهنا وأن رحلات الطيران تلغى؟ أن يتم الآن إحكام الإغلاق علينا مع فيروسنا ومع رئيس وزرائنا، بصحبة كل المرض، كل المعاداة للعلم، كل الكراهية والحمق التي يمثلها كلها هو وحزبه ونوعية سياساته؟” هكذا تتساءل الهند اليوم.
ترى كيف سيكون رد فعل مصر حين تغلق حدود الدول الأخرى في وجوه أهلها وتلغى رحلات طيرانها؟ مع أول إعلان للصين بإلغاء استقبال رحلات الطيران القادمة من مصر، بدأت المعايرة “بالفيروس الصيني” عوضاً عن النظر للداخل المصري، دون استيعاب أن الموضوع ليس ثأراً “شخصياً” بين الدول، هذه مسألة حياة أو موت ومسؤولية تجاه الملايين من الناس.
طبعاً ليس هذا همّ مصر وحدها، هو هم الدول العربية كلها التي ترى في النقد خيانة وتعتقد أن المساندة يجب أن تكون غير مشروطة، على طول الخط، في الخطأ قبل الصح، وأن ليس للنقد “وقت ملائم”، دائماً الوقت غير ملائم، سمعتها حين انتقدت حكومة الكويت ثم حين انتقدت معارضتها، وحين انتقدت النظام السوري وحين ساندت النشطاء البحرينيين، وحين ساءلت المنهجية في مصر. “خليك في حالك” هو مفهوم لا ينفع، لا إبان أزمة كورونا ولا إبان أي أزمة إنسانية أخرى، فمصير البشرية متشابك تماماً وقرارات بضع أشخاص ستؤثر سريعاً في حيوات الملايين من الناس. لذلك لنحاسب حكوماتنا ونحكم المنطق لا العواطف الفارغة، كل له الحق في ذلك “بمعزات أو بدونها”.