أنا في الجنة
“الإنسان ابن الشك” أخبرني والدي، “الشك فضيلة تجعلنا نستخدم عقولنا لنصل إلى قناعات نتفادى بها كسل الاتكال على عقول الآخرين”. لطالما بهرني هذا الرجل في هدوئه وسلامه مع نفسه، راضٍ هو والدي، متصالحٌ مع متاعبه وشواغله وشكوكه. بعد سنوات من مراقبته متحركاً، متحدثاً، متحاوراً، سألته “من أين كل رضا النفس هذا؟ كيف تذهب لأبعد الحدود في التسامح مع أقسى ردود الفعل؟”، وقد جاء الرد على غير توقعي، “فالإنسان منا يتغير” قال والدي، “في يوم، قد أتغير أنا اقتراباً ممن أختلف معهم، أو قد يتغيرون هم اقتراباً مني، فلمَ أخسرهم ويخسرونني؟”.
في ظل هذا الرجل تعلمت ديناً غير الدين الذي يعيشه الناس، غير الدين المكتوب في الكتب، غير الدين الذي تتوارثه بحزنها وانهزامها الأجيال. في ظل هذا الرجل تعلمت أن الدين قصة خلابة رائعة الجمال، في ذاكرتي الطفولية، الدين صور وخرائط وكتب ملونة كنا نقضي الساعات نتصفحها ونحكيها، في ذاكرتي المراهقة، الدين شعر وروايات سياسية وثورات تنقذ الفقراء ورجال ونساء يحررون العقول، وما إن بدأت مرحلة الرشد، فخرجت من ظل والدي المنير إلى شمس البشر المعتمة، حتى اكتشفت أن عالم طفولتي المسحور ومراهقتي المثالي، أن الحكايا والشعر والفلسفة العميقة، أن الحب والثورات والمثاليات الجميلة، ليس لها علاقة بدين الزمان والمكان. شعرت بغربة وغضب عندما اكتشفت الخديعة، إلا أنني لم أستطع أن أحدد مصدرها، أهو والدي خدعني فصور لي الدين قصة رائعة الجمال أم هو الزمان الرديء الذي سلب قصتي الرائعة كل جمالها؟
يفوز والدي دوماً فوق الزمان والمكان، بجواره أعود إلى دائرة الأمان والمثالية فأتذكر الرسالة: فما الدين إلا أسلوب حياة، كما قال لي دوماً، فمن يعش من أجل علمه أو من أجل عمله أو من أجل مساعدة الآخرين أو من أجل الدفع بخطوات البشرية بأي صورة فهو على دين، هو متدين بالخير والإنسانية، عباداته في خلقه، تنسكه في جهده، وطهارته في صدق نواياه. الدين ثورة، أن تثور على ظلم، على فقر، على ألم، والدين قصيدة، أن تنشدها في الحب، في الإنسانية، في السلام، والدين ملحمة موسيقية، أن تعزفها سعادة وروحانية وأملا. أن تكون مسلماً، مسيحياً، يهودياً، بوذياً، كونفوشياً، زرادشتياً، تاوياً، أن تكون غير كل هذا ودون كل هذا، بالأخلاق أنت على دين، ودونها أنت… كافر.
لطالما قال لي والدي “لا تبعثري جهدك إقناعاً للآخرين، حاولي أن تكوني مثالاً لرسالتك، سيقتنعون بها إن اقتنعوا بك وأحبوك”، ولقد قضيت سنوات أتحاور حول الليبرالية والعلمانية، إلا أن ما أدخلهما دائرة الرضا كان عملي الإنساني في الواقع، عندما وجد البعض في نفسي شيئاً رضوا عنه فأوصلوه بهذه المبادئ، فكان أن حقق فعل إنساني واحد ما لم تستطع أن تحققه المقالات والمقابلات والأحاديث والنقاشات من إقناع وتجميل للفكرة التي أحاول أن أروجها. ولطالما قال لي “لتكن حياتك مسيرة بقناعاتك التامة، لا تعيشي بغير ما تؤمنين به، وإلا ستعيشين تناقضاً يعبئ قلبك بالغضب ويحرمك الرضا والسلام”، إلا أن والدي لم يكتف بأن قال لي ما قال، ولكنه مهد الطريق وفتح الأبواب، فسمح لي أن أعيش ما أؤمن ورضي عني حتى وهو يختلف معي، فكان أن كنت أنا: راضية.
في ظل والدي كل شيء أجمل، كل القصص مبخرة، كل المبادئ محققة وكل السبل ميسرة. في ظل والدي الدين، كل دين، ثورة على الظلم والطغيان. المحبة والتسامح والسلام هي عبادات الدين، والعمل والاجتهاد والتزام المبدأ والأخلاق هي معاملاته. والدي هو رسولي الخاص، أرسله الخالق لي وحدي لينقذني ويحررني، واليكم رسالته: كن طيب المعشر، حسن الخلق، هين التعامل مع الناس، كن صارم الأخلاق، قاسي المبدأ، شديد التمسك بالخير الإنساني، أنت مرضي في الدنيا والآخرة. إنها الرسالة الأجمل والأصعب، أحث تجاهها الخطى فتستعصي علي قدر انسيابها في حياة والدي، أحاول كثيراً وفي محاولتي يتجدد رضا والدي عني، وهنا، أجدني في الجنة.