يضيء شموعا في كاتيدرائية سانت ماريا ماغواير في بيرغامو في إيطاليا
أنا بخير
اجلسي يا هذه واعطي المكان فرصة. دائما متسرعة أنت، عقلانيتك تطغى ويسارية روحك تغلظ أحكامك. لكنني لا أجد نفسي كثيرا في هذه الكنائس الفخمة، فعلى روعة بنائها وفخامة ديكوراتها الفنية وعظمة وتاريخية القطع المخزونة في جنباتها، إلا أن هذ الثراء كله يتناقض في نفسي ومفهوم بساطة التعبد والتقرب للرب، ويتضارب وقصة ألم وتضحية المسيح في السردية المسيحية، كل هذه الفخامة كيف تتواءم وكل هذا الألم والعذاب؟
من على كرسيي الكنسي هنا أتذكر روعة البناء المسجدي الذي طالما كان الأقرب فنيا إلى قلبي بانخفاض سقفه واتساعه الأفقي وتواضعه العمودي وبساطة محتواه. ذلك لا ينطبق على كل المساجد بالطبع، ففي صراعهم على السلطة، بالغ خلفاء الإمبراطورية الإسلامية في بناء مساجدهم حتى أفرغوها من بساطتها برفع سقفها بشكل غير تقليدي وبتضخيم قبابها، ولكن يبقى للمسجد بساطة روحانية لربما بسبب خلاء ساحته من الزينة الشديدة وامتداده الأفقي الفسيح.
أتذكر الآن زيارتي لمسجد قرطبة قبل سنوات، أتذكر انبهاري الموثق في صور التقطها
زوجي في غفلة مني وأنا أقبل الجدران والعواميد اعتذارا منها عما أصاب البناء من تلف على أيدي الإسبان المسيحيين الذين استرجعوا إسبانيا من أيدي المسلمين منتقمين منهم في هندستهم المعمارية. غادرت المسجد يومها دامعة، ينظر إليّ السواح باستغراب، هل هذه سليلة المعتمد بن العباد تبكي تاريخها المهزوم؟ لو يعلمون أنني من خليج شبه الجزيرة الصحراوي وأنتمي لأصول فارسية، لو يعلمون أنني أبكي القطعة الفنية بحد ذاتها، ما كانوا سيقولون في؟
لكنني سأبقى جالسة هنا*، على هذه الكراسي المستطيلة الممتدة، يجاورني هذا الرجل الدامع، يمسح عينيه براحة يده، ترى ما هو سره؟ ما الذي يبكيه؟ ما سر هذه الكنيسة؟ روعتها الفنية خلابة بلا شك، ولكن ليس هذا ما يبقيني على كرسيي؛ هو شيء ما في هوائها، طراوة ما بين جدرانها، لربما هو هذا التمثال المعلق للسيد المسيح في منتصفها، لم أر شبيها له في كنيسة من قبل؛ معلق هو من سقفها المرتفع، هبوطا في الهواء كأنه يطير فوق الرؤوس، بخلاف بقية التماثيل التي عادة ما تكون معلقة شاهقا على جدران الكنيسة.
عجيبة هي فكرة السيد المسيح في السردية المسيحية، غاية في الشاعرية، هو إله هبط من السماء متمثلا في رجل يقدم نفسه فداء للبشرية، يتحمل الآلام والعذابات ليفتدي بها آثام البشر؛ يا لها من فكرة خلابة، الأرفع إنسانية والأعلى أخلاقية، ولكنها غير منطقية، وأنا لا أعرف سوى مذهب المنطق. أف! مالي ومال المنطق الآن، ألا تمتلئ كل الأديان بمفاهيم لا تحتمل المنطق، لا تحتمل سوى المشاعر والإيمان المطلق غير قابل للعقلنة؟ هلا سمحت لنفسي أن أستمتع بعض الشيء بهذه الروحانية دون أن تهاجمني العقلانية الصلفة والمنطق القاسي البارد؟
سأبقى جالسة وأفرغ روحي من همومها وأنا أرى آلام المسيح مرسومة على جسده المعلق فوق رأسي. أول مرة أرى تمثالا قاسيا للمسيح بهذه الصورة، عظام قفصه الصدري بارزة، جسده غاية في النحول والضآلة، جلده مدقوق في أنحائه بآثار التعذيب، عيناه مسبلتان على ألم تعبر عنه تقاسيم وجهه العظمي المكسو بجلد رقيق.
ألمك يا سيدي لم يفتد كل الآلام، عذاباتك لم تخفف بقية العذابات، على الأقل لم يحدث ذلك في هذه الدنيا، لربما فيما بعدها؟ يا لها من أمنية بشرية خلابة لا يبدو أن لها من الواقعية نصيب. ها هو المنطق يريني وجهه مجددا. أف، لو يعتقني عقلي ولو لدقائق أتشارك فيها وهذا الرجل المنكوب بآلام البشرية يحملها آثارا على جسده وآلاما في قلبه.
جسدك معذب سيدي لكن روحك صافية بلا شك؛ أما أنا فجسدي منعم ولكن روحي هي المعذبة. أشعر بسخونة وثقل في عيناني ينبئان بموقف محرج. ها هو زوجي يقف يراقبني من بعيد، ينظر إليّ بفضول العارف أن الموضوع خرج عن إطار النزهة السياحية ودخل في إطار التأمل المؤلم، في حيز محاسبة النفس وتقييم المواقف.
ليتك تبتعد بعض الشيء حبيبي، لتجنبني إحراج اللحظة، تزعجني معرفتك العميقة بنفسي، لا خصوصية شعورية لدي، تعرف ما يعتمل في قلبي وما يدور في فكري كأنك ملك الحساب يسجل عليّ كل خواطري. أشعر بألم في حنجرتي بما يبدو وكأنه حجر يغلق منافذها. ترى ما الذي يهيج مشاعرنا، الشعور بالإيمان أم الشعور بالأحزان؟ كم أنانيون نحن البشر، كل العذابات والآلام التي تحوطنا، كل الفقر، كل الموت، كل الظلم، كل الأطفال المعذبة، إيلان، عمران، أحمد الدرة، أطفال قانا، أطفال سوريا، أطفال الروهينغا، أطفال اليمن، الكوليرا التي تنهش اليمن، ولا نستطيع أن نرى أبعد من أحزاننا.
أقف الآن أمام أيقونة التضحية بجسده المصلوب، تحضرني صورة إيلان “نائما” على الرمل الناعم، موجة تأتي تحت خده وموجة تذهب، قميصه الأحمر، حذائيه الصغيرين، ويبقى ما يدق في قلبي هو وجعي أنا، ألمي أنا، جرحي الذي لا يزال مفتوحا منذ سنوات، مصلوبا على روحي بمسمار حاد كهذا المسمار المدقوق في قدمي المسيح.
يا لي من أنانية، لا بد لي أن أكبر الصورة، أن أرى الحقيقة، أن أرى تفاهة آلامي ونمنمة وجودي وسط مليارات البشر على هذه الأرض الضخمة التي هي أصغر من أصغر حبة رمل في الفضاء الفسيح، الذي يتمدد ويتمدد إلى ما لا نهاية ليحتوي على المليارات والمليارات من النجوم والكواكب، والتي جميعها تحوم وتسبح في مادة مظلمة سوداء، والتي تجتذب هذا الكون لبعضه البعض والذي لا بد أنه واحد من أكوان عدة لا متناهية، ما أنا وما حزني في هذه اللانهاية الأزلية العدمية؟
اختفى زوجي، دمعتان ساخنتان تبخرتا ما أن لامستا الهالتين السوداوين أسفل عيني. أنا مرهقة، وأشعر برغبة ملحة في النوم. أود أن أغادر الآن، إلا أنني ملتصقة بتعبي، بآلامي، بحسابي مع نفسي، لهذا الكرسي الخشبي العريض. أراك متدليا فوق رأسي أيها السيد المسيح، مصلوبا بآلام غيرك، لم إذن ينهشني ألمي بهذه الصورة؟ لماذا لم تخلصني يا سيدي؟ هل تضحيتك هي مجرد أمنية بشرية أم أنني بذنوبي لم أدخل في رحابها؟ لو أن الإجابة بهذه السهولة، لو أن المطلوب هو افتداء البشرية بفرد واحد، لو أن الحل هو في عودته آخر الزمان لينقد العالم وينهي المعاناة، لو أن الإجابة بهذه البساطة والعظمة والمثالية، لكان للبشرية أمل. يجب أن أغادر الآن، أراه جالسا على سلالم المدخل، يبتسم بتفهم، ينتظر بصبر، سأبادله الابتسامة وسأخبره أنني بخير.
* كاتيدرائية سانت ماريا ماغواير، بيرغامو، إيطاليا.