أنا المخ وأنت العضلات
تاريخ طويل من التعاليم الدينية وتوجيهات “رجال الدين” ربطت التدين بالحزن والألم والمعاناة، حتى دخل في أعماق ضمائرنا أن الفرح معاد للدين، وأن متع الحياة متضادة معه، وأن المعاناة والألم مصدران للحسنات ورضا الرب، فالمؤمن مبتلى، والمعاناة والفقد والأمراض مصادر للحسنات، والضحك دوماً نعقبه بتعبير “اللهم اجعله خيراً”. هكذا تجلت فكرة أن التجهم واكفهرار الوجه لهما علامة على الجدية والزهد في الحياة والإغراق في التدين، وتلك فكرة قد سبقت في الديانة المسيحية الكاثوليكية من حيث إن الألم والمعاناة يطهران النفس ويمسحان الآثام، وفي الديانة اليهودية من حيث إن الحرمان من متع الحياة يقرب من الرب ويستجلب مرضاته.
والفرح والسعادة والضحك هي جميعاً مصادر قوة للإنسان، والإنسان القوي لا يقاد ولا يتبع، ومن لا يقاد ولا يتبع يشكل معضلة للقيادة الدينية والسياسية التي تأمل إرضاخ العامة لإرادتها؛ لذا ينبغي للإنسان أن يبقى محبوساً في آلام نفسه، في معاناته ومخاوفه وهمومه، في شعوره الحارق بالذنب وشعوره الخارق بالخوف من عقاب وعذاب قادمين، يجب أن تبقى هذه الأغلال في يد الإنسان، بل يجب أن يضعها هو بنفسه على رسغيه، ويجثو على ركبتيه وينضم إلى الركب الأسير. لذا؛ وللسنة السادسة على التوالي كما تقول صحفنا الكويتية، تحرم الكويت من احتفالات رأس السنة، وفي حين يبتهج العالم، ومنهم جيراننا الأقرباء، بشكل خلاب يدلل على الاهتمام بالفرح الجماعي، وعلى تجدد الأمل بالبدء بالعام الجديد، تنتشر المحاذير عندنا في الكويت من أي حفل، أو تشغيل أي موسيقى، أو حتى إطفاء الأضواء في الساعة الثانية عشرة صباحاً منعاً لأي تشبه “بالنصارى”، فيهاجر الكويتيون هجرات جماعية صغيرة إلى الدول المجاورة، ضاخين أموالهم في غير بلدهم، محتفلين بالسنة الجديدة بعيداً عن أرضهم، إرضاءً لحفنة كان آخر ما سمعت عنهم أنهم مهزومون مدحورون وليس لهم أي قوة أو وجود سياسيين في البلد. لا يجدي نفعاً أن تعزل الأجساد وتبعد الأشخاص في حين لا يزال فكرهم يخترق القلوب والأنفس، يتحكم فيها عن بعد، يرعبها ويرهبها حتى وهو فكر قصي مهزوم. ما الذي يحدث بالضبط؟ لماذا بعد أن غنت الحكومة موشحات كاملة في انتصارها وإبعادها “للرجعيين” لا تزال تعمل وتفكر وتقرر بعقولهم؟
المضحك في الموضوع هو أن التقويم الميلادي ليس له علاقة مباشرة بالمسيحية في الواقع، بل هو تقويم كلاسيكي تعود أصوله لربما إلى نشأة مدينة روما، ليبني عليه المسيحيون فيما بعد ويعدلوا عليه ليقترب أكثر من ميلاد المسيح، أي أن التقويم بحد ذاته تعود بداياته إلى سنوات ما قبل الميلاد؛ لذلك فإن “رهاب المسيحية” الذي يعيّشنا فيه رجال السياسة قبل رجال الدين لنبقى مكبلين بمخاوف الآثام والذنوب يسهل قيادتنا، هذا الرهاب هو كذبة تلصق بكل ممارسة عالمية، بكل احتفال أو فرح تتشارك فيه الإنسانية جمعاء، عيد رأس السنة، وعيد الأم، وعيد الحب، وغيرها من مناسبات الفرح، حتى نبقى معزولين متقوقعين، لا نشارك العالم تطوره وأفكاره التجديدية وسياساته التحررية فقط، ولكن حتى نحرم مشاركته فرحته العامة واحتفالياته الإنسانية الجمعية، فنبقى حبيسي أنفسنا ومخاوفنا والحياة الآخرة بكل عذاباتها الموعودة.
لا يبدو أن للموضوع علاقة بالمسيحية، فميلاد المسيح مناسبة سعيدة عند المسلمين، والذين بدورهم يستفيدون من العديد من الاختراعات والاكتشافات التي تمّت باسم المسيحية وعلى أيادي روادها، الموضوع له علاقة بنا نحن وبمنهجية التحكم في عقولنا، إنه التحالف الأبدي بين الدين والسياسة عندنا، الأول هو المخ والثاني هو العضلات، أنت تبث الفكرة وأنا أدافع عنها بالسيف، وهكذا تبقى الملايين حبيسة فكرة، فكرة تراقب وتسجن وتتحكم دون الحاجة لسجان.
وكل عام والجميع بخير وحرية.