أنا أتنفس حرية
أنا بتنفس حرية ما تقطع عني الهوا
لا تزيدا كتير عليّ أحسن ما نوقع سوا”… (جوليا بطرس).
أسحب النفس، شيء مثل الرطوبة الدهنية الثقيلة ينزلق في رئتي، أفتح فمي على اتساعه، أسحب شهيقاً أقرب إلى صرخة مكبوتة، صفرة مريرة تدخل مع الهواء القليل الرطب المنزلق إلى جوفي. أيتها الحكومة، أيتها القادمة من جوف سالفاتها، يا من تدفعيننا برمضائك دفعاً إلى أحضان نار المعارضة، ألا يكفيك ما فعلت بنا؟ شلل وتراجع وتنمية ولدت ميتة، تحالفات وبيع وشراء، وحوش صنع أياديكم، أبطال رفعهم تراجعكم، تلاعب ومماطلة ومزايدة، وطبعاً… ضرب. من بقي في هذا البلد لم تضربوه؟ النواب، شباب المعارضة، “البدون”، نساء، رجال، حتى الأطفال… وماذا بعد؟!
مرار ينزلق على اللسان، تشعر وكأنك واللحظة خارج نسق الزمان والمكان، غربة موقف، وكأن ما يحدث يطردك من طبيعية الأيام إلى سيريالية الأحلام. كل شيء ثقيل، بطيء، كأنك تشاهد الأحداث على شريط فيلم قديم، يطقطق شريطه وتومض أضواؤه على الحائط، فلا تكاد تتعرف على نفسك أو على ما تشاهد أو حتى على لحظات المتابعة الغريبة. المثاليات لا تسعى في ركاب الأيام، لا تعيدوها في نفوسكم، نعرفها، شبعنا من سماعها، ولكن هل من الضروري أن ننزلق من المثالية إلى الوحشية؟ ما الذي حدث لكل الأشياء التي في المنتصف؟ خمسون سنة من التيه والضياع، خمسون سنة من اللاوجود، حتى عندما عاقب الخالق بني إسرائيل، حكم عليهم بالتيه أربعين عاماً في صحراء سيناء، فمتى ينتهي تيه حكوماتنا ولجاننا وأجهزتنا؟ متى تعفون عمن تدّعون أنهم يدّعون؟ حتى إن صدقتم، متى ينتهي الحقد التاريخي؟ متى تتوقف العنصرية المتراكمة؟
أحفاد الأحفاد ظهروا على سطح هذه الأرض، وأنتم لا تزالون تتوهونهم، ما إن يصل أحدهم حتى تعطوه زوادة من بطاقة قميئة ملونة وتدفعوه إلى الصحراء، فدَين الآباء لا يزال معلقاً، وعلى الصغار أن يحملوه صليباً إلى آخر الدهر. خرجوا في مظاهرة؟ صرخوا؟ “حدفوكم” بصخرة؟ وماذا تتوقعون؟ ألم تدفعوا بهم إلى صحراء جرداء إلا من الصخور؟ هل تعرفون ما يفعل لهيب الظلم فوق رأس الإنسان في ظهر الصحراء؟
“أنا بتنفس حرية ما تقطع عني الهوا”، والحرية هي الكرامة، والكرامة هي الحياة. يوم تُجردون الإنسان من كرامته فأنتم تحولونه إلى وحش، ويوم تحولونه إلى وحش فأنتم تحولون بيتنا إلى غابة، ويوم تحولونها إلى غابة فأنتم تقتلوننا جميعاً. شيء من فيء العدل يا أصحاب القرار حتى يعتدل ضغط الدم فنستطيع أن نفكر باستقامة. فمنذ يوم الضرب في يوم اللاعنف ولم يعد للتفكير أي شكل مرتب أو منطقي، تداخلت الصور والأحداث، تراكم الغضب على الخوف فخرب الداخل ولوّنه بحقد أسود لم أعرفه من قبل. شيء من الظل، شربة ماء، نفخة هواء حتى يعود الدم يدور في الشرايين فيستوي التفكير. “لا تزيدوها كثير علينا أحسن ما نوقع سوى”.