أمومة وسياسة
استمعوا لأبنائكم، آباء وأمهات، استمعوا للأبناء، استمعوا للآمال والآلام والشكوى والعتب، تمهلوا حتى تنزلق الدموع على الخدود، اصبروا على الغضب والألم وصابروا لتصلوا للأمل، هذا هو دورنا المستحق كأمهات وآباء، هذه هي المهمة الحقيقة التي تعدنا لها الحياة منذ أن يولد الصغار، فيعتمدون علينا في المأكل والمشرب والحماية والصرف المادي، وإلى أن تشب أجسادهم وتبزغ أرواحهم وتزهر جيناتهم “ليصنعوا” بدورهم خلفائهم، إلى هذه اللحظة التي لا يعودون يحتاجوننا لإطعام أو حماية أو مساندة مادية، كل ما يحتاجون هو الحضن الحنين والكلمة الشفيقة والأهم الانتباه والاستماع والاحتواء، كل ما يحتاجون هو أن نقف مصدات بينهم وبين متاعب الحياة وأوجاع الأرواح، أن نغربل لهم الآلام والأحزان لتصفو أقل إيلاماً وأهون حملاً على النفس.
تفكرت في هذا الموضوع كثيراً وأنا أشاهد الموسم الجديد من مسلسل “ذا كراون” الذي يحكي قصة الملكة إليزابيث بأسلوب درامي رائع. في هذا الموسم تظهر رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر لتشكل مع الملكة ثنائيا نسائيا صارما قاد بريطانيا خلال حقبة حساسة جداً خطوات للأمام وخطوات للخلف، حيث تجلى التراجع السياسي والاجتماع والاقتصادي بوضوح، في الدراما المستقاة من الواقع، مع السياسات العنيفة بل والتي يمكن وصفها بالفاسدة التي كانت لثاتشر في ذلك الوقت. إلا أن موضوع المقال لا يتعلق بأداء المرأتين الحديديتين، بل هو يتعلق بأداء أُمَّيْن صارمتين، كان لصرامتهما وبعدهما وعزلهما للأبناء أسوء الأثر، حتى أن أمومتهما الجافة تلك انعكست على قيادتهما للبلد التي خلت في أحايين كثيرة من العاطفة الإنسانية المستحقة.
في مشهد مؤلم في المسلسل نرى ابنة ثاتشر تحاول التواصل مع والدتها، تحاول أن تشكو وأن تحكي، إلا أن والدتها القاسية لم تكتفي بصدها ومنعها من لحظة مصارحة بادعاء الانشغال بتحضير العشاء، بل هي، بعد أن ضغطت ابنتها عليها، أقرت أنها تحب أخيها أكثر منها “لأنه أقوى. . . هناك حد لما يستطيع الفرد عمله، حين يكون الأفراد بحد ذاتهم محدودين”. كل نقد يصلنا له قسوة على الروح، ولكن لا يوجد نقد أقسى من ذلك الذي يصل بعنف من الأمهات والآباء، هذه الكينونات الوحيدة التي يفترض أنها قادرة على أن ترى كمالا ً في امتدادها البيولوجي قد لا يكون واقعياً وقد لا يكون مرئياً لغيرها. فإذا أتى النقد قاس غليظ مغرق في الواقعية من الأب أو الأم، فماذا تركا لقسوة الحياة لتضرب به الأبناء؟ وكيف سيتمكن الأبناء من الشعور بقيمة أنفسهم أو الثقة في إمكانياتهم أو شخصياتهم أو طبيعتهم السلوكية والنفسية إذا ما أتى النقد الذي يصل حد القدح والذم ممن يفترض فيه عدم المقدرة سوى على رؤية الكمال والمثالية فيهم؟ سيتفكر الأبناء، إذا كان هذا رأي أمي أو رأي أبي، من يفترض أن يحبونني بشكل غير مشروط، فما يمكن أن يكون رأي الآخرين بي؟
أعلم أنه من الصعب أحياناً مواجهة آلام الأبناء، فنحن دوماً نشعر، خصوصاً كأمهات يرافقنا تأنيب الضمير وكأنه إرث الأمومة الذي لا يمكن أبداً التخلي عنه، بأن لنا يد في آلام ومتاعب أبنائنا، بأننا قصرنا في شيئ تسبب بصنع الألم أو ساهمنا بشكل ضاعفه. ما لا يدركه البعض منا أن هذه اللحظة ليست لحظتنا، هي ليست لحظة حماية أنفسنا من سماع ما قد يؤرقنا أو يقرص ضمائرنا، بل هي اللحظة التي يعدنا لها قدرنا الأبوي والأمومي منذ اللحظة الحميمية التي صنعنا بها هؤلاء الأبناء، هي اللحظة التي تتخندق فيها كل مهماتنا القادمة في الحياة، هي لحظة لعب أهم أدوارنا، لحظة مساندة الأبناء وتطبيب قلوبهم وإفراغ نفوسهم من الآلام بالاستماع لهم، هي لحظة الصبر والتحمل وحسن الانصات، حتى للمؤلم، التأنيبي، الموجع، التواجهي مع قصورنا وإخفاقاتنا كآباء وأمهات. يمكن لأخطائنا أن تترمم إذا ما أعطينا اللحظة حقها، إذا ما استمعنا بصبر، وتفاعلنا بحلم، وعبرنا بشفقة ورحمة ومحبة، يمكن لقصورنا أن يضمحل، إذا ما واجهنا أخطائنا، وما كابرنا بأمومتنا وأبوتنا، واستمعنا لما قد لا نوافقه أو نراه، إدراكاً أنه يتشكل حقيقة كاملة صلدة في قلوب ونفوس أقرب وأعز من نحب. ليست الأبوة والأمومة مراكز إرثية، نتحصل على كل مزاياها بمجرد إتيان الفعل البيولوجي لإنجاب الأبناء، لكي نتحصل على هذه الصفة الرفيعة للأبوة والأمومة يجب أن نعمل على استحقاقها وأن نحافظ على مكتسباتنا تلك طوال حياتنا في علاقتنا مع الأبناء. البر ليس بالوالدين فقط، لربما البر الأكبر يجب أن يكون بالأبناء، هم الأصغر، الأقل خبرة بالحياة والأكثر عرضة، بحكم نقص التجربة، لاختبار قسوة آلامها وثقل أحمالها. بطيب المعاملة، بحسن الاستماع، باحترام الأبناء، بتذكيرهم بمزاياهم لا نواقصهم (فالحياة كفيلة بالتذكير بالأخيرة)، بالتأكيد الدائم على الإيمان بهم ومحبتهم غير المشروطة وفتح القلوب والأرواح لهم مهما بدا منهم وأياً كان تقصيرهم أو قصورهم، نكون قد أكلمنا دورنا الحقيقي كآباء وأمهات في الحياة.
ليس معنى ذلك تزيين السيئ أو مجاملة الأخطاء، فالدور التربوي لا ينتهي بالنسبة للآباء والأمهات، هو يتغير في شكله ونوعيته، في طريقة وأسلوب تقديمه. حين يتحول الآباء والأمهات من مرحلة التربية إلى مرحلة الصداقة، تنتقل معهم المصارحة وإن تغير أسلوبها. هذا التغيير في الأسلوب يأخذ وسطاً بين أقصيين، لا مجاملة ومبالغة بالتدليل لحماية الأبناء من مواجهة أخطائهم ولا قسوة وتعنيف تصغر الأبناء وتقهقر العلاقة من صداقة إلى طفولة ما عادت منطبقة. هنا يتحول الأمر التربوي إلى نصيحة “صديقة”، نصيحة صادقة هادئة تحترم خصوصية الأبناء، استقلاليتهم ومراحلهم العمرية المتقدمة.
لربما الكثير من نكسات بريطانيا إبان عصر ثاتشر يعود لقيادتها العنيفة ليس فقط للبلد ولكن كذلك في حياتها الشخصية، حين انعكست فلسفتها الأمومية على فلسفة قيادة بلد بأكلمها من خلال تجاوبها العنيف مع الأحداث والأشخاص، حين تواصلت بمنطق البقاء للأقوى دون احترام للحظة الضعف وعمق انسانيتها. من لم تستطع ذلك مع ابنتها، لا يمكنها أن تستشعره أو تأتيه مع البشر المحيطين، فكانت هزيمة محيقة لسياساتها الداخلية والخارجية. في قسوة ثاتشر المروعة مع ابنتها، في نقدها لضعفها إلى حد إفراغ الابنة من المحتوى، صورة لقسوتها السياسية في قيادة مجتمع، والذي على قدر ما كان يتطلب من قوة وصرامة، كان يحتاج كذلك لتفعيل التقييم الإنساني ووضع المشاعر وردود الأفعال البشرية في ميزان قراءة النتائج. لم تحسب ثاتشر الجانب الإنساني كعامل فاعل، فخسرت كأم وخسرت كقائدة، وبالتعبير التقليدي القبلي الذي يسود منطقتنا، يمكن القول بأن ثاتشر خسرت “كأم” للشعب. يبقى أقوى ما يكسرنا وفي ذات الوقت أشد ما يقوينا ويستدعي ردود أفعالنا المقاوِمة هي إنسانيتنا، ومن لا يضعها في المعادلة، يخسر بكل تأكيد.