أمام الأجساد المعلقة
يدور الحوار حول عقوبة الإعدام في الدائرة الخطأ تماماً في مجتمعاتنا، نتعامل مع الموضوع من منطلق انتقامي أو، في أفضل الحالات، من منطلق ردعي، وكلاهما يعزز نفسية مرضية لا يمكنها أن تساهم في تحقيق إصلاح حقيقي. فالقبول بعقوبة الإعدام انتقاماً من المجرم، أياً كانت جريمته، هو انعكاس للحالة النفسية للمنتقم والتي تسحب خلفها قطاراً من القرارات المتشفية المخيفة في العموم، وأما المنطلق الردعي الذي منه يُعتقد أن قتل إنسان سيخيف آخرين ويوقف نزعهم للجريمة، فهو منطلق قديم قدم الإنسان ولم يحقق نجاحاً في يوم ولا يوعز إلا بأن القتل مقبول كحل إصلاحي، وهذا إيعاز مريض بحد ذاته.
الحقيقة أن الحوار حول عقوبة الإعدام يجب أن يدور حول تأثيره على الأحياء وانعكاسه على المجتمع ككل، حول الأفكار التي يرسخها والرسائل التي يرسلها. أولاً، من يصدر حكم الإعدام هو كمن ينصب نفسه إلهاً يحكم بحياة أو موت الآخر، وهو دور لا يتواءم أبداً والطبيعة الإنسانية، فلقد صدرت أحكام إعدام مغلوطة على مر الدهر وستستمر في الصدور ما بقينا على وجه الأرض، وإنه لأن يحيا ألف مجرم خير من أن يموت إنسان بريء واحد. ثانياً، لم يثبت في أي مجتمع من المجتمعات على مر العصور أن عقوبة الإعدام خفضت من معدل الجريمة مطلقاً، لذا فإن الجانب الردعي غير متحقق، هذا إضافة إلى أن الردع بالإعدام يتيح الفرصة للعقوبات الوحشية لأن تستخدم، فما المانع إذن من تقطيع أوصال البشر، أو تجويعهم، أو رميهم للحيوانات الضارية كسبل لتخويف الآخرين وردعهم؟ إن في هذا المنحى تراجعاً حضارياً إنسانياً كبيراً يعيد البشر إلى العصور الغابرة التي كانت فيها إنسانيتهم تتنازل لمخاوفهم ونزعات نفوسهم وأحقادهم ورغباتهم الانتقامية، فيقتلون لينتقموا أو ليخيفوا أو ليسيطروا على الآخرين.
ثالثاً، إذا أقررنا أن القتل هو خطأ كمبدأ عام، فلا يحسنه ولا يصححه أن يصدر من محكمة أو أي مسؤول في الدولة مهما علا شأنه أو تعالت حكمته. يبقى المبدأ خطأ، وفي حال القبول به كعقوبة لتصرف خاطئ، فنحن نقر به كمبدأ، وعليه سترتفع في الواقع نسبة العنف بين البشر تحقيقاً لمبدأ أن القتل مقبول كوسيلة عقابية.
رابعاً، تبقى عقوبة السجن ناجحة في تقليص الجريمة وعزل المجرمين، إضافة إلى أنها قد تحقق إصلاحاً لنفوس بعضهم فيصبحون أفضل ويساهمون في تحقيق شيء من الصلاح وإن من خلف قضبان السجون. هنا، تكون العقوبة قد تحققت، والأمن حفظ، والإنسانية استتبت، والفرصة في إصلاح إنسان بقيت حتى لو لم يعد هذا الإنسان أبداً للاختلاط بالمجتمع.
لقد كان مؤلماً ومخيفاً، بل يراكم صور التعسف والعنف الحكوميين اللذين أصبحا هما المنحى في الآونة الأخيرة، أن تصدر أحكاماً متعددة بالإعدام وأن تصور وتعرض على الجمهور لترعبهم وترهبهم بل لتشفي الرغبات المريضة عند البعض منهم في مشاهدة مناظر إنهاء حياة الآخر أو لإطفاء ظمأ الانتقام الذي إنما يؤجج أكثر ولا يطفئ أبداً بمثل هذه المناظر المؤلمة إنسانياً.
ويبقى أن يرد عليك الآخرون بأمثلة مكررة قديمة، ماذا لو قتل أحدهم فلذة كبدك، أتبقين ضد حكومة الإعدام؟ لا تحسم المسألة بالمشاعر، ولا تبنى على ردة فعل إنسان مقهور مكلوم. في قلبي، هناك من البشر من ارتكب جرائم بودي لو أقطع أوصالهم على إثرها بأسناني، وهنا تأتي غلبة المفهوم الإنساني والمشاعر المتحضرة على التعطش النفسي الغرائزي وانسياب المشاعر الثائرة. هنا يظهر وجه التحضر الإنساني عندما يرفض الإنسان الاستسلام لمشاعر الحقد والانتقام، فيقسر نفسه على الطريق الأكثر إنسانية، الممهد بالرحمة وبمبادئ التحضر النفسي والفكري، فيمنع نفسه أمام رغباته ومشاعره الدفينة ويجبرها على المبدأ الرفيع. بذلك يرقى المجتمع ونأخذ خطوة باتجاه التحضر الإنساني الحقيقي.