أعظم فتن الدنيا
الإنسان الجريء في طرحه، في كتاباته، في عرض آرائه، في فنه، هو خطر كبير على أي نظام حكومي يقوم في لبه على فكرة التحكم والضبط والتسيير القطيعي والذي يبنى على قواعد محددة تضمن استمرار القوى في أيادي القابضين عليها.
لا ينطوي موضوع منع الكتب أو حجب المواقع الإلكترونية أو طرد المفكرين من الكويت على أي وازع أخلاقي أو محاولة إصلاحية للمجتمع. أستطيع أن أجزم، رغم خطورة الجزم دائماً، بأن الموضوع وبلا أدنى شك لا هدف بنّاء له ولا خطة أخلاقية تقف خلفه. وعلى أن موضوع المنع والحجب والرقابة ينطوي على تساؤلات عدة، منها مثلاً التساؤل حول مَن يحدد الجانب الأخلاقي وعلى مقياس مَن يكون السماح والمنع؟ ومنها كذلك التساؤل الذي أتى في مقال الزميل علي خاجة حول نتائج مثل هذه التحركات الرقابية وأثرها على المجتمع عبر التاريخ الإنساني، إلا أن ما يعنيني في مقال اليوم هو قراءة في هدفها الحقيقي، فلربما إذا عرفنا الهدف بطلت الخديعة.
ليس لمنع الكتب وحجب المواقع والرقابة بأشكالها أثر كبير على توافر المادة المعنية، حيث كل المواد المقروءة والمرئية والمسموعة متوافرة بسهولة على الإنترنت وحيث رفع الحظر على أي موقع أصبح من السهولة بمكان حتى وكأن الحجب لم يكن، ولن تتطور القدرة الرقابية إلا إلى الخلف، حيث ستأتي السنوات القادمة بتكنولوجيا ستصبح معها أي محاولة لمنع أي مادة ضرباً من خيال. الحجب والمنع وتطبيق رقابة بمقاييس معينة ما هي إلا عمليات سياسية بحتة، المقصود منها إرسال رسائل محددة لأطراف محددة. هي وسائل إثابة ومعاقبة، تثيب الطرف المتحالف مع الحكومة وتعاقب الطرف الجريء المتحرر، وهو الطرف الأخطر في أي معادلة سياسية على الحكومات والدول. الإنسان الجريء في طرحه، في كتاباته، في عرض آرائه، في فنه، هو خطر كبير على أي نظام حكومي يقوم في لبه على فكرة التحكم والضبط والتسيير القطيعي والذي يبنى على قواعد محددة تضمن استمرار القوى في أيادي القابضين عليها. في الغرب تطور الوضع إلى حد كبير، نزلت عنده الحكومات على رغبات شعوبها المتزايدة في الحريات واحترام بل وتقديس الاختلافات، ورغم كل هذا التطور فإن الصراع من أجل المزيد من التحرر لا يزال قائماً. عندنا يقبض الخوف الشديد على أعناق حكوماتنا وأنظمتنا أنّ أي درجة من الحرية، حتى لو كانت فنية أدبية لا علاقة لها مباشرة بالسياسية، لن تفعل سوى أن تجر خلفها المزيد من المطالبات بالحرية، والتي سرعان ما ستفتح شهية الشعب للمزيد منها، وساعتها، سيفلت الزمام وستتحول السلطة من يد الحكومة ونظامها إلى يد الشعب، وأي كارثة تلك ستكون على مواقع القوى؟
الرقابة في الواقع هي أسلوب عقوبة، وربما أسلوب إهانة، وضع هذا المتحرر الجريء في مكانه وتذكيره الدائم بقدرة صاحب السلطة عليه. في ذات الوقت هي أسلوب برمجة، فهي تصنع رقيباً من صانع المادة على نفسه، يراقب هو نفسه قبل أن يراقبه أحد، يراجع ما يكتب، ما يرسم، ما ينحت، ما يصنع، يدقق مفردات مادته، يحاول تخفيف وسائل تعبيره، يلتف على المعنى الحقيقي الذي يود إيصاله، أغطية وتلميحات وأقنعة كلها لتفادي المنع والعقوبة، حتى تتشوه دواخل الموهوبين، وتتغير عقليات المبدعين، ويتبرمج رقيب صارم داخل كل منا ليذكرنا بخسائرنا التي ستكون إذا ما خرجنا عن الصراط، ليتحول المجتمع بأكمله إلى كتلة بشرية من النفاق لصالح أوامر ونواهي أصحاب السلطة وحلفائها أياً كانوا، دينيين، سياسيين، أو تجاراً. هذه النتيجة هي انتصار سياسي بحت لا انتصار أخلاقي، فالحكومات الرقابية لا تأبه بدخولك جنة أو ناراً، لكنها تخشى صوتك ومقاومتك وتساؤلك، هي لا تود أن تخلق منك شخصاً ورعاً، لكنها تود تشكيلك شخصاً مطيعاً سهل الانقياد. تلتف ساعتها هذه الحكومة إلى أقرب حليف، عادة ديني حتى يسندها بالفتاوى ويعزز منعها بالأمر الإلهي، لتعزز قواها وسلطتها وتعيدك، إن خطر لك غير هذا، إلى صف القطيع.
الرقابة هي أذكى خدعة سياسية تستخدمها الدولة الشمولية بحجة المحافظة على الأخلاق والعادات والتقاليد وحماية النشء، فواقعياً، الأخلاق آخر همها والنشء همّ على قلبها، ولو كان للأخلاق قيمة لما كانت أكبر مشاكل بلدنا الوساطة التي أدت إلى تزوير الشهادات والجنسيات (على حد شكوى الحكومة ذاتها) ولو كان للنشء قيمة لما كانت المناهج تعلمهم حرمة الديمقراطية، وأن فتنة النساء “من أعظم فتن الدنيا”، إنما القيمة اليوم للقوة والسلطة والمال، وكلها تتأتى وتكبر وتستمر بصمت الشعب وانقياده وطاعته. لن تحمي الرقابة الأخلاق في يوم، هي فقط تضعها في مكان معتم رطب مغلق، ولا شيء ينمو في هذا المكان سوى… العفن.