أصدقاء لله يا محسنين
كان قد دار حوار بيني وبين تلك السيدة المتدينة حول الصهيونية واليهودية وحول موقفها هي من الأديان الأخرى وحول معنى مفهوم «اعتناق دين» بالنسبة لي، وهو ما كان موضوع مقال الأسبوع الماضي. هذا الحوار انتهى نهاية حزينة في الواقع، تدل -من وجهة نظري بالطبع- على عمق المشكلة الفكرية في مجتمعاتنا أحادية الرؤية، وحدويّة التوجه. لقد صور هذا الحوار المشكلة واضحة بكل بساطتها ومباشرتها وتجذرها: لم تكن هناك «قاعدة مشتركة» له كما أشارت محدثتي في إحدى تغريداتها. فالإيمان الصارم بوجود حق واحد لا يمكن الإفساح لمعتقدات أو إيمانيات أخرى بجانبه، شكّل معضلة أضعفت فعلياً القاعدة التي يقف عليها نقاشنا. وعلى أنني لم أنقطع عن الرد على ما وجهته لي محدثتي من تغريدات، إلا أن الحوار انتهى نهاية حزينة بأن انقطعت هي عن الرد وبدأت تكتب تغريدات متذمرة عامة وانتهت إلى تحويل حسابها بأكمله للخاص حتى لا يتسنى لي الاطلاع على ما تكتبه، وهو طبعاً حقها الذي لا جدال فيه.
كانت إحدى حجج هذه السيدة في مطابقة الصهيونية واليهودية هي -على حد قولها- أن «الصهاينة انبحّ صوتهم بربط أنفسهم باليهودية»، حيث جاء ردي على ذلك في نقطتين، الأولى أن هناك مسلمين متطرفين يربطون أنفسهم بالإسلام كذلك، وهذا لا يدين الإسلام، إنما يدين فهم هؤلاء وتفسيرهم له، والثانية أن هناك حاخامات يهود يقفون موقفاً معارضاً تماماً للدولة الصهيونية ويعتبرون قيامها مخالفاً للملة اليهودية، حيث أرفقت لها مع ردي أحد الفيديوهات لحاخامات يتكلمون في الموضوع ويخرجون احتجاجاً ضد الدولة الصهيونية في مظاهرات وقعت قبل سنوات في أمريكا. عند هذه النقطة كان الحوار قد توقف، حيث أشارت إلى ما معناه أنها ضيعت وقتها ولم تنل شيئاً سوى أن زودتني بمادة المقال، ناقدة علي «تجزر الأفكار» و«مرتاعة» -إن أسعفتني الذاكرة في استرجاع ما كَتبَت- من انعدام فائدة الحوار، لأنني -حسب قولها- لن أقتنع برأيها، ولأن كل شيء عندي نسبي، ولأنني لا أستطيع فهم فكرة الحق المطلق تماماً. هذا ما أذكر مما جاء في تغريداتها قبل أن تغلق حسابها في وجه الغرباء أمثالي إلى الأبد.
في بداية حوارنا، كتبت السيدة تغريدة عامة اكتشفتُها لاحقاً، تقول فيها ما معناه «يا رب ساعدني على نقاش ثلاثة أيام»، معبرة عن استثقالها لنقاش هي بدأته ومذكرة نفسها عموماً بنَفسها الطويل في الحوار، هذا النفس الذي أخذت هي أول شهقة منه بمحض إرادتها ثم زفرت آخره بغضب وسرعة كبيرين. في الواقع، عبر الحوار بضيق مساحته وقصر مدته وحدته عن فكرة مهمة جداً لربما هي الهدف من تفصيل الواقعة، ألا وهي استشكالية فكرة الحق المطلق التي تمنع فعلياً عملية استمرارية تبادل الأفكار وتسبب للطرف المتمسك بها آلاماً شديدة و«ضيق نفس» وغضباً شاسعاً في أثنائها، فكيف يتسنى للإنسان أن يسمح بحوار حول ما يراه حقاً مطلقاً لا جدال فيه ولا إمكانية للتفاوض حول تفاصيله؟
أقدر هذه المشاعر جداً، أدرك صعوبة تتبع حوار يراه أحد الأطراف محسوماً أصلاً ويستشعر حرمة التفكير فيه أو التشكيك في بعض جوانبه. والسؤال الملح هو هل يمكن لإنسان أن يعتنق ديناً دون أن يؤمن بحق مطلق؟ إن فلسفة الأديان مبنية، في معظمها، على فكرة الحق المطلق، فهذا الحق الأوحد كما في الأديان الحديثة، أو هذه الغاية العليا كما في البوذية، أو هذا السلوك المقدس كما في الكونفوشية، أو هذه السلبية الرحيمة كما في التاوية، أو هذا الصراع المستمر بين الخير والشر كما في الزرادشتية، هذه جميعها لا يمكن لمعتنقها أن يجادل فيها أو يقايض حول صحتها وإطلاقها. لكن لربما يكمن المخرج من أزمة «الإطلاق» هذه في التفرقة بين «حق مطلق» و«الحق المطلق» من حيث إن الأول يتيح للإنسان التمسك بفكرته حول وحدوية وحقيقية إيمانه مع وجود مكان بجانبه لحقيقات أخرى يعتقد بها أصحابها ولو ضلالاً، في حين أن الثاني «يعزل» الإنسان و«يباعده» اجتماعياً ونفسياً تماماً، فلا يرى سوى صورته ولا يسمع سوى صوت نفسه ولا يستوعب سوى حقيقته: الحقيقة الوحيدة المطلقة.
هذا الإنسان يحيا حياة صعبة عسرة، كما هي حيواتنا الحالية مع كورونا، منعزلاً متباعداً متشككاً في الآخرين، جازماً أنهم يحملون «وباء» عقيدة ستودي بهم إلى النار، وأنه لا بد أن يحمي نفسه من هذا الوباء بالبعد والجفاء والانقطاع بل وبالعنف أحياناً.
واقع الأمر أنني كنت مرتاحة وأنا أناقش السيدة، ذلك أن إثبات خطأ رأيي ليس حدثاً مزلزلاً بالنسبة إلي، هو ليس نقلة نوعية في حياتي، فأنا أتعلم جديداً كل يوم وأكتشف أخطاء مفاهيمي كل ساعة، لا يسوؤني ذلك في شيء، ولا يزلزل ذلك من حياتي حقبة، فالشك والتساؤل والبحث هي أدوات لا تفارقني، وهي مسالك دوماً ما تهبط بي لركبتيّ؛ لكثرة ما أكتشف من جهلي وأخطائي. من كان متعباً هو محدثتي التي كانت أية احتمالية واردة لخطأ رأيها حول وحدوية اليهودية والصهيونية مدعاة تعذيب لها. فقد ربطت هذه الفكرة بالعقيدة، وأغلقت باب هذه العقيدة فقط على فهمها هي وتفسيرها، فتسكرت الأبواب والشبابيك وعلت الكمامات الأفواه وكانت العزلة التامة.
انقطعت السبل وخسرت صديقة محتملة، وهذه الأيام تتضاعف قيمة وثقل الخسائر ونحن نرى بني جنسنا يتهاوون تحت ثقل الوباء وتحت ضغوط الخلافات والنزاعات والعنصريات التي أردفها هذا الوباء القميء إلى سطح حيواتنا… إلا هذه الفترة، لا أريد أعداء، أريدكم جميعاً أصدقاء.