أشياء
ترى الكاتبة أن هناك عزلة تعيشها الشخصية الكويتية جاءت نتاج منهجية مستمرة منذ سنوات باعتماد الفصل والعزل بين الكويتيين وغيرهم، حيث بدأت المناطق تنفصل، والمدارس تنفصل، حتى مراكز التسوق، أصبحت منفصلة في نوعية روادها، معتبرة أن هذا الفصل يغرب الإنسان، ويحطم قدرته على التعامل مع المختلف.
مكسبنا الوحيد من المحن التي تمر علينا هي أنها تعلمنا شيئاً، شيئاً عن طبيعة الحياة وشيئاً عن طبيعتنا نحن. تراكم علينا ككويتيين في الفترة الأخيرة عدد من المحن التي اختبرناها واختبرتنا، فأظهرت مناطق القوى التي يجب أن تدعم ومواقع الضعف التي يجب أن تعالج، ولربما أبرز ما وضح لي شخصياً أننا كشعب كويتي نعيش أحياناً كثيرة، نفسياً وعقلياً، في عزلة عن العالم الخارجي. نحن شعب يسافر كثيراً ويختلط كثيراً، لكنه لا يخالط ولا يعايش إلا في أقل القليل.
تأتي عزلتنا هذه، في رأيي، نتاج منهجية حكومية مستمرة منذ سنوات طويلة تعتمد الفصل والعزل بين الكويتيين ومن عداهم. قليلاً فقليلاً، بدأت المناطق تنفصل، والمدارس تنفصل، حتى مراكز التسوق، بتأثير فصل المناطق، تنفصل في نوعية روادها، وهذا الفصل يغرب الإنسان، يحطم قدرته على التعامل مع المختلف، يجعله يدور حول نفسه وكأنه مركز العالم، يتشكك في نوايا الآخرين ويرفض كل ما لا يشبهه، وأسوأ الأسوأ أن هذا العزل يقلل من إنسانية الآخرين بالنسبة إلى المنعزلين، يصبح “الآخر” مجرد صورة تظهر على التلفزيون، كلمة تصل عبر الراديو، شيئاً إلكترونياً يتم التواصل معه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. يفقد الآخر كينونته الإنسانية في نظر المنعزلين، يصبح لقطة مكررة: سيدة فلسطينية أمام بيتها المحطم، لاجئ سوري على ظهر مركب يكاد يغرق، طفل كردي على الحدود بوجه معفر، كلهم صور، نحكي عنهم، نتعاطف معهم، ولكن ما مدى شعورنا الحقيقي ببشريتهم؟ بآلامهم ومعاناتهم؟ هل نؤويهم في بيوتنا ونشركهم في طعامنا، نلمس وجوههم بأيادينا، نحتضن أطفالهم في صدورنا لو تطلب الأمر؟ أشك كثيراً والدليل موقفنا العام تجاه فتح حدودنا للاجئين السوريين.
سبق أن كتبت، نحن نعشق فعل الخير، فهو يزودنا بشعور جيد من الرضا ويريح ضمائرنا بشعور طيب من أداء الواجب، طالما بقي الخير ومحتاجوه بعيداً عنا. أما أن يأتوا إلى عقر دارنا ويشاركونا الحياة بلحظاتها، ويختلطوا معنا في أماكنها، فبكل أسف، فقدنا نحن القدرة على تقبل ذلك. حادثة دهس الشاب المصري التي وقعت منذ أيام تشير إلى بُعد تدميري جديد لسياسة العزل هذه، ففي حين أن هذه الحوادث الفردية واردة الحدوث، ففي كل الشعوب الأرعن والطيب، وفي حين أن ردود الفعل المريضة يمكنها أن تصدر من كل الأطراف، المجتمع الجاني والمجتمع المجني عليه، إلا أن هناك درجة من فقدان القدرة على التواصل العاطفي لربما ستتحول إلى ظاهرة خطيرة قريباً في مجتمعنا الكويتي.
كتبت على “تويتر” بعد الحادثة أعزي الشعب المصري وأعتذر له عن مصابه على أرضنا كنوع من التواصل العاطفي وتهدئة للقلوب المحروقة واعترافاً ضمنياً بوجود خلل ما لابد لنا من التوجه، كمجتمع متكامل، لإصلاحه. أتت ردود من عدد لا بأس به باستنكار الاعتذار والإصرار على مقارنة ساذجة وطفولية لردة الفعل المصرية تجاه حادثة مقتل السيدة الكويتية ووالدتها التي وقعت قبل فترة، وعندما تعلو في كل مناسبة أصوات كثيرة بمنحى غير إنساني غاضب متهور، عندها لابد أن نسائل أنفسنا: كيف ولمَ يصل خراب نفسي كثير لعدد كبير في مجتمع صغير وثري يسهل التحكم فيه وتطويره، مما يستوجب أن تكون الأغلبية فيه على جانب الخير، مطعمة بهدوء نفسي واتزان عاطفي تحتمه الحياة المريحة والظروف الآمنة؟
تأتي ردة الفعل الكويتية إلكترونياً أو شخصياً أحياناً لتظهر انقطاعاً عاطفياً بين الكويتيين والعالم، درجة من التعالي تعوقنا عن استيعاب بشرية الآخرين، درجة من الانعزال تغربنا عن معاناتهم، درجة من الراحة تعمينا عن آلامهم ومصائبهم، درجة من الأمان تصمنا عن مخاوفهم، درجة من العلو تحرمنا القدرة على التسامح مع مواقع ضعفهم. أصبحت أحكامنا لها طابع ضغائني: مثل ما فعلوا هم نفعل، أصبحت ردود أفعالنا مطعمة بخلل الانفصال هذا: ليسوا منا، إذاً لا يستحقون مالنا. كنا ذات يوم شعباً طيباً، دائماً ما كان على اتصال بقضايا عالمه العربي والإقليمي، متواصلاً متصلاً، يحتضن أكبر جالية مصرية فلسطينية أردنية سورية هندية وغيرها، كنا كذلك في يوم، وأتت سياسة الفصل العنصري لتحرمنا طيب نفوسنا وتسامحنا وقدرتنا على التواصل مع الآخر. سرقونا ببطء، حولونا بتأن حتى ما عدنا نعرف كيف نربّت على ظهر منكوب تسببنا في نكبته فنقول المعذرة منكم. كيف حدث ذلك بهذه السرعة؟!