أشعتم في قلوبنا الوهن
أخذتني الصورة بغرابتها، بتنسيق شكلها المريب، وكأن هؤلاء المحتلين كراسيهم في هذا المجلس المتشكل على شكل الحرف U هم قطع ميكانيكية متكررة منتظمة الاصطفاف. واحد تلو الآخر، يجلسون في مستطيل فقد ضلعه الرابع، كل يحمل دشداشته وغترته وعقاله على جسده ويتخذ ذات الجلسة المنتظمة في الديوان الفسيح. حضرتني مباشرة كلمات أغنية مالفينا رينولدز “علب صغيرة على التلة… كلها تبدو متشابهة”، كيف سنتغير إذا كان هذا مشهدنا الرسمي؟ كيف سنتقدم إذا كان هذا شكلنا الممثل لأمتنا الذي تلتقطه الكاميرات؟
دعا الدكتور حمد المطر، أحد نواب مجلس الأمة الكويتي الجدد، لاجتماع تنسيقي لأعضاء مجلس الأمة لتنظيم لجان المجلس الداخلية، مستثنياً عدد سبعة نواب، منهم عدد مميز من النواب الشيعة إضافة إلى نائبتين لم تقدم لهما الدعوة بحجة “تفادي الحرج”.
كان تبرير الدكتور أن هذه آلية للتنسيق وأن الدعوة وجِّهت للترتيب “مع مجموعة نيابية ومن حق غيرنا أن يقوم بالتنسيق” دون أي تبرير حقيقي لتجاهل النواب الذين لم تتم دعوتهم. فإذا ما غضضنا النظر عن الموقف الانتقائي الواضح تجاه النواب أصحاب التوجه الشيعي القوي، والذين، رغم الاختلاف معهم فكرياً وفعلياً، إلا أنهم يبقون نواب في المجلس لا يجوز تحييدهم في وقت “يطنطن” فيه الجميع حول الوحدة الوطنية والتعاون المشترك، وإذا ما غضضنا النظر عن تجاهل آخرين لم تتم دعوتهم بحجة أنه لا يوجد اتفاق في التوجه والرأي رغم التراشقات والتضاربات “التاريخية” المجموعة المدعوة، فكيف نغض النظر عن الموقف من النائبتين اللتين تم تجاهلهما بسبب “الحرج”؟ أي مسبب للحرج يفترض أن يكون في اجتماع كهذا؟
لربما المشكلة، “حرج” حضور النائبتين، كان ليكون في الصورة، ليكون في وجود ألوان لطيفة في بحر الأبيض الباهت الذي ملأ الديوان، ليكون في وجود فواصل تقف عندها العيون، يستريح عندها النظر بعد رحلته السريعة الممتدة في خط أبيض طويل من الرجال، رجال قالوا فعادوا وزادوا، ترشحوا ونجحوا ورفعوا شعارات وصرخوا في المجلس وتراشقوا بالأيادي وطنطنوا بالأقوال الكليشيهية الساذجة القديمة، رجال غضبوا أمام الكاميرات وتصافحوا صلحاً تحت الطاولات، رجال اعتدناهم وحفظناهم صوتاً وصورة، شكلاً ومضموناً، أسلوباً وتعبيراً، فكراً داخلياً وتعبيراً مزخرفاً منمقاً كليشيهياً خارجياً. الصورة هكذا، بلا النائبتين، صحيحة، مرتبة، على حسب عاداتنا وتقاليدنا، على “ما وجدنا عليه آبانا”، كما التقطناها على مدى سنوات طوال، فاعتدناها وارتحنا لاعتيادها، ففي الاعتياد راحة، حتى لو كان المعتاد عليه شكل لا تأثير حقيقي له ولا مضمون صريح بداخله.
كلامي ثقيل قاس، أعلم ذلك تماماً، لربما هو ظالم بعض الشيء وصولاً لحد الاستخفاف الجمعي، أعترف بذلك تماماً كذلك. لكن الواقع أن الكلام مستحق، لأن الواقع متعب حد اليأس، ولأن النتائج مخيبة حد الاختناق، ولأن جمودنا بارد حد التجمد، ولأن التمثيل الممل السخيف والكليشيهية الباهتة المريبة طغت علينا واستولت على كل المشاهد العامة في حياتنا. كلامي يأخذ الطيب بجريرة الشرير، والبريء بجريرة المذنب، لربما، لكن الكل مستحق بمن فيهم الطيب والبريء، ذلك أن من لا يتخذ موقفاً راديكالياً ثورياً من المشاهد المعتادة والمواقف القديمة المتكررة، لا شيء يبرئه أو يطهر ثوب عمله السياسي. من قَبِل بهذا المشهد “الناقص” وحضره، هو جزء منه ومن إثمه.
في هذا البلد الصغير الجميل شاسع الإمكانيات تكمن كل المتناقضات، من أبسطها إلى أوجعها، فيه أعلى درجات الديموقراطية وأكثف درجات التقاضي على الرأي، فيه أشد درجات الحرية وأعلى درجات التقليدية والتطرف الديني، فيه أكثر الشعوب الخليجية انفتاحاً وأكثرها تزمتاً وإطلاقاً للأحكام، وفيه أول وأقدم وأقوى مشاركة نسائية سياسية واقتصادية وبنائية للوطن وأحدث صورة لاجتماع نيابي خلا من نائبتيه النساء “تفادياً للحرج”.
هن اثنتان، كل من لدينا من مشاركات في الحياة البرلمانية هن اثنتان، وسرعان ما عزلتموهما عن أول فعاليات مجلسكم المريض، مريض تحديداً لأنه مليء بالمتشابهات، ببياض الدشاديش والغتر المسدلة، بذات الوقفات والسكنات والكلمات والصفقات، بذات الأساليب وطرق التفكير، بذات “تصميم” الاجتماعات: ديوان على شكل الحرف U، يصطف فيه المتشابهون مغمورين ببياضهم الباهت، تنتظم أمامهم طاولات بنية بعلب المناديل البيضاء وزجاجات المياه البلاستيكية، كل شيء محسوب بدقة، مرتب بميكانيكية تبلغ حد الطرافة أو الغرابة المرعبة. أنظر في الصورة التي رفضت التغيير، لفظت أي لون بهيج، فأتذكر كلمات دنقل “كل هذا يشيع بقلبي الوهن/كل هذا البياض يذكرني بالكفن”، كفن النجاح ووهن التكرار الذي لا يتعلم منه الشطار. الله يمد بأعماركم ويعطيكم الصحة، لا أتمنى لكم إلا السلامة، لكن دشاديشكم المصطفة في صوركم المتكررة ما عادت تذكر بخير، أبداً.