أسئلة إرهابية
الحياة بطبيعتها متضادة والفراغ، ذلك أن كل لا شيء هو شيء، وكل فراغ لا بد أن يمتلئ لحظياً، فإذا ما امتلأ بما يغضب أو يزعج أو يتنافى والمبادئ، فاللوم يقع بشكل متساو على من صنع الفجوة وخلق الفراغ، وعلى من تجاهلهما في مرحلة تشكلهما. إذا كان «حشو الفراغ» مزعجاً، فلا تلومن سوى نفسك على ترك هذا الفراغ بلا محتوى يملأه ويحفظ محيطه من اتساع فجوته وامتلائها بما يسوء ويزعج.
يصح هذا الكلام على أصغر المكونات إلى أكبرها. إذا تركت زجاجة بها بقايا ماء فارغة ستمتلئ بالبكتيريا، إذا تركت طبقاً بفضلات طعامه مكشوفاً سيمتلئ بالنمل، إذا تركت روحك فارغة ستمتلئ بالحزن والكراهية، إذا تركت وطناً فارغاً سيمتلئ بالانقسامات، إذا تركت وجع وظلم احتلال فارغين سيمتلئان بالأحزاب وحركات المقاومة، الجيد منها والمشبوه، والتي قد تكون معجونة بالغضب ومصهورة بالأيديولوجيات المتطرفة. هل لك أن تشتكي إذا كنت أنت من ترك الزجاجة فارغة والطبق مكشوفاً؟
لسنوات مازالت مستمرة، كان، ولا يزال، الداخل اللبناني مفرغاً من محتوى سياسي حقيقي مخلص يخدم الشعب، لا يجند الشعب وجهوده لخدمته. ولأن الفراغ متضاد والطبيعة، فقد ملأت هذا الفراغ أحزاب عدة، الواحد منها يتعدى نظيره استغلالاً وانتهاكاً للشعب اللبناني، وصولاً إلى حزب الله، معروف العلاقات ومصدر التمويل. هنا، يصعب على أي معتدل أن يرى في حزب الله أماناً للداخل اللبناني وهو يأخذ أوامره وتمويله من الدولة الإيرانية، وهو يشكل دولة داخل دولة بجيش يتعدى جيش الدولة عدداً، ويتصدى أحياناً لجيش الدولة في المواقف المختلف عليها. كيف يمكن أن يكون هذا الكيان الحزبي مفيداً ومقبولاً؟ يكون كذلك فقط في حال وجد فراغاً لا يسده غيره.
في جريمة انفجار مرفأ لبنان، لم يسد الفراغ ولم يستجلب الوقود ولم يساعد المنكوبين أحد مثل حزب الله. فكيف إذاً ننقده، وأنا من ناقديه ولا أزال، بضمير مستريح ونحن لا نمتلك البديل ولا نستطيع أن نغطي شيئاً من الدور الذي يقوم به للداخل اللبناني؟
ومثله يكون وضع حماس، هذه الحركة الواقفة وحيدة في ساحة المعركة، بعتادها القليل وبأدواتها البدائية، صادة رادة على العدو الأكثر وحشية وبشاعة في الشرق الأوسط ولربما العالم أجمع.
هي حركة، حسب ادعاء البعض، خلقها الصهاينة؟ هي حركة متطرفة؟ هي حركة لها علاقات مريبة وماض مشبوه؟ ليكن كل ذلك، ولكن من غيرها يصد الآن؟ من غيرها يقف في وهج ساحة المعركة، مفجراً الدبابات، مفزعاً العدو الصهيوني، لاجماً إياه عن الزحف الأرضي؟ إلى أن تتمكن من تقديم بديل حقيقي وفاعل في ساحة المعركة، لا يحق لك أن تدين وتستنكر وتشجب. إذا أدنت، عليك أن تقدم البديل البريء، وإذا استنكرت فعليك أن تقدم البديل المقبول، إذا شجبت عليك أن تقدم البديل الفاعل الأخلاقي المرضي عنه. أما أن تبقى في أمان عقر دارك وتنزل جام غضبك على حماس، فذلك مما لا منطق حقيقياً له ولا أساس أخلاقياً واقعياً يسنده.
لا يزال العالم الغربي تحديداً يقدم أسئلة هي بحد ذاتها «إرهابية» في مقابلاته: هل تدين حماس؟ هل تؤيد حماس؟ لا أدينها، وأؤيدها، وذلك حتى تقدموا كغرب «متحضر إنساني أخلاقي مدني» بديلاً لمقاومة «بدائية متطرفة» لا تعجبكم. حتى توقفوا مجزرة الأطفال والإبادة الجماعية والتفجير المتوحش غير المسبوق للمدنيين وللعمران بما فيه المدارس والمستشفيات، حتى تأخذوا خطوة باتجاه إيقاف اتساع رقعة المقابر الجماعية في غزة واستمرار التجويع الممنهج وامتداد الحرمان الحقير من المساعدات الطبية واستمراء التعمد في قتل الطواقم الطبية، حتى يتوقف كل ذلك، نحن لا ندين للحظة حماس، ونحن نؤيد في كل لحظة حماس، رغم تطرفها وماضيها والشبهات التي تحيط بها.
لم تتركوا مجالاً لاختيارات أخلاقية مثالية، لم تفسحوا مساحة لمقاومة نموذجية، لم تخلقوا خيارات مقاوماتية أيديولوجية متعددة حتى يقال إننا اخترنا، وبالتالي يتم الحكم على خياراتنا. ولأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، ولأنه لا توجد خيارات، كلنا نقف خلف حماس. وحدهم ملأوا الفراغ، وحدهم تكفلوا بمشاكله وأوجاعه.
ولعالمنا العربي المستريب المأخوذ من حركة حماس بماضيها المضبب وحاضرها المتطرف أيديولوجياً، ننتظر منك، من دولك وحكوماتك، بديلاً أفضل. إذا لم يكن هذا ممكناً، ولا يبدو ممكناً، بل عكسه هو الصحيح، حيث إنك أيها العالم تنقلب بقعة بعد بقعة، وقطعة بعد قطعة على قضيتك الأولى، إذا لم تكن قادراً على أن تقول أو تفعل خيراً، إذن فلتسكت.
أكرمونا يا أفاضل، بحبس نقدكم حالياً تجاه حماس، أما إذا كنتم غير قادرين على حبسه وستنفجرون صراخاً به، فقدموا البديل. انزلوا الشارع وصدوا عن غزة. أنتم من صنعتم الهوة العميقة والفراغ الفاحش، وكان لا بد لهما أن يمتلئا، وها هما قد امتلآ بمقاومة، رغم اختلافي أيديولوجياً مع كل لحظة من لحظات تفكيرها، هي قادرة صامدة مرابطة. وعليه، إلى أن ترقى لهذا الصبر وتلك المقدرة، أكرمنا بسكوتك..