أرانب وأزهار
في بحر عينيها المبحلقتين باستمرار، وكأنها تريد سبر أغوار الدنيا في كل لحظة من حياتها، غرقت طوال يومي، فلم أستطع سوى أن أكتب عن تلك الفكرة التي ألحت بها عيناها طوال اليوم، تأملتها وهي تجالسنا على الغداء، في التاسعة من زهر عمرها، قطعة من قلبي، تكونت في كياني وسرى دمها بعد أن جرى دورته في عروقي. ناظرتها طوال الوقت بطرف عيني، أظافرها الصغيرة غير المستوية ملونة بالوردي الفاقع الملطخ بألوان أخرى غافلت أوراقها الكثيرة وأتت على أصابعها وهي تدلق فنها شخوصاً وأشجاراً وأرانب وأزهارا، نظارتها البلاستيكية الزرقاء تحيط بعينين واسعتين تلتهمان كل جديد تشاهده في دنياها، “تيشيرتها” المفضل تزينه “هانا مونتانا” شخصيتها المحبوبة الجديدة التي تربعت في قلبها مكان سندريلا وسنووايت، شعرها متفرق في “عنقوصتين” دهورتهما ساعات الصباح المدرسية، فعادا إلى البيت وقد اختل توازنهما فصعدت إحداهما شمالاً، وهبطت الأخرى للجنوب الغربي، حلقها الذهبي الصغير متعلق ببضاضة أذنها، وفمها الصغير ملطخ “بزبدة كاكاو” ملونة طالما سرقتها من درج أختها الكبرى وطالما غضضت أنا البصر عن هذه السرقة الآسرة للقلب.
هذه الصغيرة، أكاد لا أراها تمشي، فهي إما تركض وإما تحجل راقصة في أنحاء البيت، تعشق الملابس اللامعة ولا تتوانى عن استكمال اللمعان بصراخ حذاء مترتر وحقيبة مكركشة وتستكمل “اللوك” بترك لفافات شعرها تتطاير بغجرية، وهي تبرر لي ولوالدها: “ماما، بابا، هذا ستايل” فتطرقني كلمات العبقري ويليام ووردزوورث في رائعته We Are Seven وهو يصف صغيرة ريفية بملابسها الفاقعة ولفائف شعرها المجنونة تفلسف له فكرتها عن الموت وتعلمه درساً في التعامل معه، فيقول في افتتاحية قصيدته (الترجمة لي):
-A Simple Child,
That lightly draws its breath,
And feels its life in every limb,
What should it know of death?
طفلة بسيطة
بالكاد تسحب أنفاسها
تشعر بالحياة في كل أطرافها
ماذا يمكنها أن تعرف عن الموت؟
فأتذكر كم من صغيرات هذه الدنيا يعرفن الموت، كم منهن فقدن معنى الحياة الذي يبدأ من معنى الطفولة، فتحدودب ظهورهن الصغيرة فوق بلاط الأغنياء تنظيفاً وتلميعاً، تتشقق كفوفهن الصغيرة فوق آلات الخياطة ليتعلق هذا البالطو خارق الثمن في واجهات متاجر خارقة القسوة، أو لتستريح هذه الحقيبة، التي تقترض الكثيرات منا لتقتنيها، على أرفف متاجر هي أكثر رحمة بجلد الحقيبة من جلود الصغيرات الكادحات. صغيرات كثيرات لا يختلفن عن صغيرتي في شيء، سوى أن أكتافهن الهزيلة تحمل أعباءً هائلة، أكثرها قسوة عبء أنوثتهن، فيقال لهن إنهن، وهن في التاسعة، نساءً ناضجات يجب أن يتحملن ذات ما تحتمله سيدة في الأربعين، أن الخالق ابتلاهن بأجساد تنقلب عليهن في هذه السن الصغيرة، فيتوجب عليهن، بدلاً من أن يقفزن ويركضن بملابسهن الملونة الكاشفة عن “ركب” تطقطقت وتخدشت من كثر اللعب، أن يتلفلفن السواد في انتظار أيام أكثر سواداً.
صغيرات في عمر صغيرتي، تلك التي يسرقها النوم أحياناً ونحن نأكل وجبتنا، فتغمض عينيها نصف إغماضة، وتنحني رقبتها بحنو على صدرها، تطلق العنان لغفوتها أينما كان وحيثما كان لتنتظرني أنا أو والدها لنحمل جسدها المليء بالألوان والخربشات الشاهدة على حنو طفولتها، صغيرات يشبهنها يحملن هن أجساداً فاحشة تفترش بضاضة طفولتهن، يترافقن واغتيالاً يومياً لأيام البراءة التي لن تعود، يتعاقد عليهن الرجال، فتنتقل من ملكية أب لملكية زوج، وتموت الروح ما بين الملكيتين.
انشغلنا بمصائب كثيرة حولنا، بحكومات غريبة ونيابيين مرضى وشعوب ضاعت بوصلتها، ومازالت الصغيرات تباع وتشترى، باسم العادات وبمباركة رجالات الدين، مختومة بفتاوى مريضة خرجت عن نطاق الزمن فتعفن فحواها وتعالت روائحها. أردت أن أتذكر وأصلي لكل الصغيرات المعذبات في مقالي هذا، واستسمحن تقصير حضني الذي ينطوي على واحدة متناسياً وجودهن بعذاباتهن، ليتني أستطيع فأضمكن جميعاً لشغاف القلب… عميقاً عميقاً في غياهب القلب.