«أذاكر… وأنجح؟!»
شخصياً، لم أؤمن في يوم بقدرة حزب ديني على القيادة بأفكار ليبرالية تحررية؛ الحزب الديني بطبيعته مبني على فكرة الحق المطلق الذي تمتلكه فئة واحدة، فكيف يمكن لهذا الحزب أن يتعامل مع التنوع البشري في الدول الحديثة على قدم المساواة؟ تلك الأحزاب، أراها “بالعة الموس” بانتظار الفرصة لبدء العمل على تشكيل المنظومة السياسية التي تتوافق ورؤاها الغيبية، هي تتصيد الوقت الصحيح لتؤسس لامبراطوريتها التي ستتسيد الأرض، كما يؤمن تماماً كل حزب ديني تقريباً عرفته البشرية.
لذا، لم أعتقد خيراً في يوم بحزب العدالة والتنمية التركي، ولا بنظيره التونسي أو قريبهما من الدرجة الثالثة المصري أو حتى بـ”ابن الضرة” الإيراني، كلهم في البلاء سواء. نعم، تظهر أحزاب الدول الأكثر خضرة وماء ليونة وتفهماً وانفتاحاً تفوق جميعها وبمراحل تلك الظاهرة (أو بالأحرى غير الظاهرة مطلقاً) في الدول الصفراء الصحراوية، إلا أن الهدف الأخير واحد. هناك، في المناطق الخضراء، الخطاب ألين والتدرج أبطأ والفكر أطوع، وهنا في المناطق الصفراء الخطاب أخشن والتدرج غير موجود والفكر متصلب صادم، إلا أن الهدف الأخير واحد، ولابد له أن يكشر عن أنيابه في مرحلة أو في أخرى.
وها هي الأنياب تبرز بوحشيتها في مصر، لتنغرز في رقاب الناس قاطعة عنهم الكهرباء والماء وضروريات الحياة، لتستدير، وقريباً مغيرة على الحريات التي لن ينتبه إليها الناس، ولن ينعاها أحد بعد أن ضاعت أساسيات الحياة الكريمة.
تلك هي الأنياب التي ذاق عذاب انغراسها الإيرانيون، ليفقد بلدهم عريق الحضارة روحه المتمثلة بالحرية والمساواة بين المواطنين. ذات الأنياب أعملت تقطيعها في الجسد التونسي، وإن كان إلى الآن الأكثر صموداً ومقاومة، إلا أن المفاجأة الكبرى كانت ظهور أنياب أردوغان وحزبه قبل الأوان، حيث كان من المتوقع أن تستمر تمثيلية العلمانية الدينية لفترة أطول لحين أن يستتب الأمر لتركيا في قلب الاتحاد الأوروبي سياساً ومجتمعياً، إلا أن صبر أردوغان قد نفد، فكشّر عن أنيابه تجاه مجموعة بيئيين ليتفجر وضع راكمته سياسات أردوغان شبه الدينية التي أخذت تزحف على وجه تركيا العلمانية وليتكرر ذات الحوار، وتتهافت ذات التهديدات، وتتوالى ذات الأساليب، فلم تنفع بودرة العلمانية ولا أحمر شفاه الليبرالية التي طالما وضعها أردوغان على وجه حزبه.
في كل واحدة من الدول المذكورة أعلاه، حاولت الأحزاب السياسية أن تُبقي على مظهر متطور لامع؛ حوارات تقدمية، إعجاب بالعلمانية، “محبات وقبلات” لأصحاب الأديان المختلفة، إشراك للمرأة وإبراز لدورها، إلا أن كل هذه المحاولات الرامية لإبراز التقدمية لا تلبث أن تنكفئ على قفاها أمام الاختبارات الصعبة، لتنفلت الأعصاب دفاعاً عن “الحق”، ولتظهر الأهداف الحقيقية ويتجلى الخطاب الواقعي، وتنفتق اللثة عن النابين يعملان حديهما في كلام الليل لنصحو عليه ميتاً في نهار الحقيقة الحارقة المرعبة.
في عالمنا العربي الإسلامي المنكوب نحن دوماً بين خيارين، فإما حكومات فاسدة تقتلنا باسم الخوف من الأحزاب الدينية، وإما أحزاب دينية تقتلنا باسم الخوف من حكومات دكتاتورية، فرصتنا الوحيدة في الاختيار هي اختيار على يد من نريد أن نموت، أما أن تكون لدينا حكومة وصالحة في ذات الوقت فصعب، على رأي سعيد صالح: “أذاكر… وأنجح؟!” صعب جداً.