أخطار كونية كبرى
ثلاثة أعمال درامية شاهدتها تباعا هذه الفترة كلها تحكي حكايات دستوبية تتخيل الأرض والبشرية بعد وقوع كارثة طبيعية تنهي الحياة كما نعرفها. في العموم، أنا من عشاق الدراما المستقبلية، والتي هي دوما دستوبية تشاؤمية الهوى، من حيث احتواءها على الكثير من التحليلات الفلسفية حول مفهوم الحياة ومعنى الإنسانية، ومعنى أن نكون بشر فسيولوجيا ومعنى أن نكون إنسانيون نفسيا، حيث كثيرا ما تناقش هذه الأعمال مدى صمود المبادئ الإنسانية أمام غريزة البقاء ودافع استمرار النوع في الحالات الكارثية الكبرى.
مسلسل “المئة” أو The 100 يحكي قصة انتهاء الحياة على سطح الأرض بسبب صراع نووي ترك الأرض مشعة تماما، حيث لم ينجُ منها سوى عدد بسيط نسبيا من البشر الذين استطاعوا الهروب للفضاء عيشا في محطات فضائية مؤقتة انتظارا لعودة صحة الأرض وقابليتها لاحتواء البشر من جديد.
كان جو المسلسل خانقا وهو يظهر البشرية محبوسة في محطات فضائية معدنية، مما أعطى معنى متجدد للمشهد الخارجي البسيط الذي أشاهده كل صباح من شبابيك بيتي. أسكن أحد الأحياء الجديدة نسبيا في الكويت، حيث تمتد على أطراف منطقتنا أرض صحراوية صفراء لطالما تمنيت اخضرارها، ولطالما تململت من تكرار لونها ومظهرها ونسيجها الذي يبدو أنه يمتد ويمتد إلى ما لانهاية.
بدا لي المظهر الخارجي إبان أسابيع مشاهدة المسلسل منعشا خلابا. بدت الصحراء جميلة متحررة مليئة بالهواء، هذا الهواء الذي بات عزيزا في المسلسل، وهذا التحرر الذي اختفى تماما في حلقاته حين سجنت البشرية بأكملها في علب صفيحية كئيبة تحوم في الفضاء.
إلا أن الفكرة الأكثر إلحاحا في هذا العمل الدرامي كانت فكرة تحول المجتمعات البشرية من إنسانية إلى بقائية من حيث استعدادها التام للتوحش للمحافظة على الحياة واستمرار النوع. وفي خضم هذا الصراع، ورغم كل الكوارث والمآسي والدماء التي تنبأ بها المسلسل في تسلسل أحداثه، خُلقت طبقية بين الناجين مرجعيتها نقاء سلالة الدم ثم القوة الجسدية. ففي كل مرحلة من المسلسل ينقسم البشر إلى طبقات، يضطهد من خلالها القوي الضعيف والغني الفقير، مع التغير النسبي في معنى الغنى والفقر. دائما ننتهي إلى هنا، طبقية بشعة خطرها يفوق حتى الأخطار الكونية الكبرى.
مسلسل “ثاقب الثلج” أو Snowpiercer يحكي قصة تدهور بيئة الكرة الأرضية حتى أصبحت غير صالحة للعيش الآدمي بسبب الصناعات التي رفعت نسبة التلوث حد تجميد درجات الحرارة الأرضية. ووقاية من كارثة هم خلقوها، مول الأغنياء صنع قطار ضخم، وكأنه مدينة بأكملها، يمتد على مساحة ألف وواحد مقطورة ضخمة جهزها هؤلاء ليصعدوا على متنها ويستمروا في تحركهم دورانا حول العالم وقاية من التجمد إلى أن تتعدل الأجواء وتعود الأرض لصلاحيتها القديمة.
إلا أن الفقراء ومتوسطي الدخل هاجموا القطار قبل انطلاقه، فصعد بعضهم على متنه، وانقسم القطار إلى الذيل، حيث يعيش المعدومون المتسللون، ثم إلى الدرجات المتقدمة من ثالثة وثانية وأولى حيث يعيش أغنى الأغنياء الذين مولوا القطار.
يحكم القطار صانع الفكرة ذاتها، السيد ويلفورد، والذي سرعان ما نكتشف أن لا وجود له وأن هناك مجموعة من محركي القطار يتكلمون باسمه ويوهمون قاطني القطار بوجوده وقوته، ويطلقون كل الأحكام ويقررون كل المصائر على لسانه. هذا الرجل لا نراه ولا نسمع صوته طوال حلقات المسلسل.
قاطنو الذيل يعيشون أسوء الظروف، ينكتمون تماما في مقطورات صفيحية ضيقة قذرة لا شبابيك لها، حتى أنهم لم يروا الشمس مطلقا منذ بدأ تحرك القطار منذ سبع سنوات مضت.
تنحدر الحياة بهؤلاء حد أكلهم لبعضهم البعض جوعا، ومع استمرار الحرمان من كل مقومات الحياة إضافة إلى اضطهادهم البشع من قبل القوة العسكرية على القطار. تبدأ ثورة ما تغلي، منطلقة من هذا الذيل البعيد، ألف وواحد مقطورة بعدا عن المقدمة.
تأخذنا الحلقات من مقطورة إلى أخرى حيث يبنى الناجون عوالم مشابهة للعوالم البشرية الأرضية، مدن سرية، أحياء شعبية، أوكار موبوءة، ثم هناك مقدمة القطار، حيث فخامة حمامات السباحة والفلل الصغيرة وأحواض الأسماك الرائقة. دائما ننتهي إلى هنا، طبقية بشعة خطرها يفوق حتى الأخطار الكونية الكبرى.
أما فيلم “التصغير” فيحكي قصة حل علمي طريف للمشكلة المستقبلية، الاحتباس الحراري والاكتظاظ السكاني وذلك من خلال عملية تصغير البشر إلى حجم 12.7 سنتيمتر لينتقل هؤلاء المصغرون للحياة في أحياء تجريبية نموذجية تقلل التكلفة وتوسع المساحة الأرضية وتخفض نسب التلوث والنفايات.
من خلال قصة زوج وزوجة يقرران بعد مرورهما بمصاعب مادية أن يخوضا عملية التصغير هذه غير قابلة للعكس، أي أنه لا يمكن العودة للحجم الطبيعي بعد إتمامها، نكتشف كيف أن هذه المجتمعات “النموذجية” هي أبعد ما تكون عن النموذجية، حيث سرعان ما تنقسم هذه الأحياء المصغرة إلى أحياء فخمة للأغنياء وأحياء بائسة للفقراء، وسرعان ما يبدأ التجار بالمقامرة بحيوات الناس وباختراق الاستقرار المفترض عبر التلاعبات المالية.
إبان ذلك يبدأ البشر بالانقسام “الحجمي العنصري” بين “الصغار” و”الكبار” ليظهر التمييز بوجهه البشع تجاه المصغرين. تتحول عملية التصغير من منهجية إنقاذ الى أسلوب عقوبة، حيث يتم تصغير بعض البشر المناضلين حقوقيا مثلا أو المشجعين على الثورات والاعتصامات ثم رميهم في الأحياء المصغرة البائسة لتتدهور حياتهم أكثر. دائما ننتهي إلى هنا، طبقية بشعة خطرها يفوق حتى الأخطار الكونية الكبرى.
بدت مشاهدة هذه الأعمال موائمة للجو العام ومزاجي الخاص الذي شكله هذا الجو العام. حضرت الفكرة: إذا ما أخذنا فيروس كورونا إلى مرحلة كارثية، إذا ما انعطف بنا إلى طريق إبادة كونية، هل سينجو أحد منا؟ ومن ستكون المجموعة الناجية؟ الأغنياء سيكونون هم الناجون بالتأكيد، ليس العلماء ولا المفكرين ولا حتى الأذكياء الذي صنعوا أفكار النجاة ولا الحرفيين الذين بنوا مقار النجاة. سينجو الأغنياء الذين استطاعوا شراء أفكار الأذكياء وجهد الحرفيين، ليبقوا هم ويستمروا إلى النهاية.
لا بد أن مقار احترازية ما تبنى الآن في مناطق ما على سطح الأرض تحسبا لنهاية الحياة، يصممها الأذكياء ويمولها الأغنياء وينفذها الفقراء، وعلى ذات هذه التقسيمة ستستمر الحياة في هذه المقار النجاتية أياً كانت طبيعتها: سيسكنها الأغنياء الذين سيصحبهم الكثير من الأذكياء ليضمنوا استمرار سير العمل في المقار والقليل من الفقراء ليضمنوا استمرار راحة الأغنياء.
ولأنني لست من الأغنياء ولا الأذكياء ولا الفقراء، في الغالب لن يكون لي مكان في الحياة الجديدة، هذه الحياة التي لن تتسع للطبقة المتوسطة التي اعتادت أن تستلم نصيبها المالي من الحكومات لتسلمه تقريبا تسليم يد للتجار الأغنياء. هذه الطبقة التي لم تعرف رفاهية الأغنياء، ولا تستطيع أن تشتري المجهود والأفكار، ولا تستطيع أن تكدح كدح الفقراء. هذه الطبقة المغيبة التي تعتقد نفسها غنية وهي فقيرة، وتعتقد نفسها حرة وهي مملوكة، وتعتقد نفسها قادرة وهي عاجزة. هذه الطبقة هي التي ستنهرس قبل الجميع تحت عجلات القطار، في حين سيحيى الفقراء على متنه لتمتد معاناتهم وليتمنوا لو أن النهاية داهمتهم منذ البداية.
حتى الموت طبقي سيريح الأفضل حالا قبل الأسوأ حالا إلا أنه لن يمتد للعليين، فهؤلاء مؤجلين لصالح المزيد من الأيام، المزيد من متع الحياة. دائما ننتهي إلى هنا، طبقية بشعة خطرها يفوق حتى الأخطار الكونية الكبرى.
ذات زمن كنت أتصور أن الكوارث ستسقط البشرية على ركبتيها، وأن اقتراب النهاية سيعلي الأخلاقيات والمبادئ وسيهزم العنصريات والكراهيات والجشع. إلا أن التنبؤات الفلسفية والنفسية تقول إن البشرية ستهبط إلى حضيضها حين اقتراب النهاية وإنها ستتخلى عن كل ما يميزها ويعرف إنسانيتها، حتى أن فيلم “الخيوط” الذي أنتجته بي بي سي في 1984 والذي يدور حول مصير العالم بعد حرب نووية كونية تنبأ بأن أول ما ستخسره البشرية بعد هذه الكارثة هي أديانها ثم لغاتها وصولا إلى فقدانها لكل ما يميزها كجنس متحضر عاقل.
إبان أزمة كورونا ارتفعت نسب الفساد وتوالت قصص السرقات والمؤامرات السياسة. القطار ينطلق مفتلتا نحو النهاية وراكبيه العبيطين يتجاذبون الدولارات الورقية التي لا قيمة لها صباحا ويرقصون على جثث الفقراء مساءً. دائما ننتهي إلى هنا، طبقية بشعة خطرها يفوق حتى الأخطار الكونية الكبرى.