أجود أنواع الغباء
ثار نزاع لفظي شيعي سني في منطقة الخليج كرد فعل تجاه انتشار فيروس كورونا، خصوصا بعد قدومه إلى المنطقة من إيران من خلال زوارها الخليجيين العائدين إلى أوطانهم، الذين هم في أغلبيتهم العظمى من الشيعة بطبيعة الحال. عادة، لا أعتمد الألفاظ القاسية ولا أحبذ المباشَرة الوقحة حتى وإن كانت كلها مستحقة، لكن في وضعنا الراهن لا يوصف الحال إلا بغباء صاف، غباء من أجود الأنواع المكررة في أفضل المصافي الأصولية العالمية، غباء نقي، غباء طازج، غباء مقطوف من منابع الجهل والتخلف ليصل إلى طاولات طعامنا الفكرية مباشرة، لا مبيدات تنفع فيه، ولا غسيل أو تعقيم يمكن أن يزيل جراثيمه.
الطرف السني المتطرف يعتقد أن الفيروس مسرب عمدا من إيران، فإيران لم تعلن عنه في الوقت المناسب ولم تتخذ الإجراءات الصحية الاحترازية المناسبة، ليس بسبب الجهــل أو التخلف الطبي أو الوضع المادي المتردي للدولة، لكن نكاية في أهل الخليج، الذين -وهي في طريقها لإبادتهم- أعملت إيران فيـــروسها الفــارسي في أجساد مواطنيها هــي قبل أن يصل إلى أي أحد آخر. يتشفى الطرف السني المتطرف كذلك في الشيعة الذين لم تنفعهم عتباتهم المقدسة ولا طقوسهم التعبدية في حمايتهم من الفيروس، وكأن الإصابة تفعيل لعقوبة مستحقة لمن «ضل السبيل»، إشارة إلى صحة المعتقد من عدمها، موقف تفسيري يليق بالسردية الانتصارية.
الطرف الشيعي المتطرف أخذ على صدره الدور المظلومي الذي يلعبه بإتقان منذ زمن، فكل إجراء يتخذ بحق القادمين من إيران نكاية بهم، كل محاولة حجر صحي هي تعسف مقصود به الشيعة، حيث -بكل تأكيد- الحكومات الخليجية كانت ستتعامل بلطافة أكثر مع فيروس السنة عن تعاملها مع فيروس الشيعة، حيث ظهر مجموعة من المواطنين الكويتيين القادمين من إيران وهم يطالبون بالسماح لهم بمغادرة مقر الحجر الصحي في الكويت، وهو بالمناسبة فندق خمس نجوم يطل على الخليج، وإلا فإنهم سيتركون المقر قسرا وإن فتحت رشاشات القوات الخاصة عليهم، موقف تضحياتيّ يليق بالسردية التظلمية.
وماذا بعد؟ لاشيء، الفيروس يضرب الشيعة والسنة على حد سواء، كما يضرب على حد سواء المسلمين وبقية أصحاب الأديان الأخرى، بما أننا دائما ننظر للإسلام على أنه في كفة وبقية معتقدات الدنيا في كفة أخرى. لا بد للعاقل أن يحترم حياد هذا الفيروس، عشوائيته العادلة، عماه الأيديويولجي الخالص، فهو فيروس لا تنفع معه أي واسطة تعبدية أو فكرية أو فلسفية، فيروس لا ينفع معه عقل أو منطق، هو الكائن الوحيد -وإن كانت الفيروسات لا تعد كائنات حية- الذي يساوي بين الجميع: القوي والضعيف، الغني والفقير، المؤمن وغير المؤمن، الذكي والغبي، الرجل والمرأة، الليبرالي والمحافظ، الرأسمالي والشيوعي. إنه الكائن الوحيد (حاليا) الذي استطاع أن يوحد البشرية كلها في مشاعر خوف تواقة جعلت من ترابط هذه البشرية وتعاضدها وسيلتها الوحيدة للنجاة والاستمرار.
لكن تأبى المروءة العربية… فنحن، ومن غيرنا، استطعنا أن نحيز هذا الفيروس ونجعله يصفّ مع هذا الفريق أو مع ذاك دون أن يرف لنا جفن سخافة أو غباء. الفيروس هذا ترك البشرية بمجمل ما يزيد على السبعة مليارات نسمة منها، بآلاف الأديان والفلسفات والمعتقدات الفكرية التي تمتلكها، بكل حسنات أفعالها وسيئاتها وخيراتها وشرورها ونهضاتها العلمية والفكرية التي أنقذت البشرية، وإخفاقاتها الفكرية والأخلاقية التي كادت تودي بها.. أقول إن الفيروس ترك كل ذلك ومسك في شيعة الخليج عقابا لهم على ضلالهم وإثباتا للمؤامرة الفارسية، ومسك أيضا في سنة الخليج عقابا لهم على ضلالهم وإثباتا للمؤامرة التاريخية. حتى ونحن على طرف الهاوية، يدفع بعضنا بعضا غير واعين إلى أنه ما أن يسقط أحدنا، حتى يتجرجر البقية خلفه في سلسال طويل من البشر المنكوبين. هل هذه خطة الطبيعة للتقليل من أعداد البشر على سطح الكرة الأرضية حفاظا على النوع والاستمرارية… أن تجعلنا نتقاتل بهذا الغباء إلى أن يفني بعضنا بعضا؟ هل هو مخطط دارويني لتحرير مساحة من الكرة الأرضية لمن هم على درجة مقبولة من الفهم والذكاء الذين يساعدهم على البقاء؟
اليوم، في عارض الرد على تغريدة كتبتُها حول غرابة التشييع الرسمي لرئيس دولة مخلوع بسبب منظومة فساد كان يقودها، وفداحة تعديد مناقبه على التلفزيون الرسمي، كتب أحدهم يقول: «يكفيه أنه -رحمه الله- لم يسمح بدخول الرافضة إلى مصر ونشر مذهبهم وتصدير ما يسمونه الثورة»، كم قارئا أمّن على هذه المقولة في قرارة نفسه حتى وإن لم يعلن الموافقة صراحة تفاديا لتهمة الطائفية؟ هذا العدد، وإن له في مقابله عند الشيعة عددا مماثلا، فهو الأمر المرعب، وهو -لا الفيروس- ما سيودي بنا إلى الفناء.