أبطال من ورق
تعكس ردة الفعل تجاه سقوط طاغية ليبيا مضرجاً بدمائه، كما ردة الفعل تجاه سقوط طواغيت وإرهابيين سابقين، تمكُن أمراض نفسية عدة من شعوب منطقتنا المنكوبة، وتلك أمراض ليست جديدة على الجنس البشري، فقد عانتها شعوب المجتمعات، شرقية وغربية، والتي سبقتنا إلى إسقاط طواغيتها وتحرير شعوبها، إلا أنها غريبة على هذا الزمان الذي باتت فيه مبادئ حقوق الإنسان محاطة بهالة من القداسة حتى لتصنف الدول في تقدمها وتأخرها طبقاً لتواؤم سياساتها وهذه الحقوق الإنسانية.
فحالة التشفي المنعكسة في الرقص الهستيري حول جثة الطاغية، والتمثيل في جسده، أو، بالنسبة إلى البعيدين عن الحدث، صب اللعنات عليه، وتبادل التهاني والمباركات بمقتله، وتبادل صور جثته الدامية وصولاً إلى نشر النكات السمجة حول مذبحته كلها تشير إلى تركيبة نفسية تغلغلت فيها المآسي وترعرعت في ثناياها الأحقاد النابتة من عمق الفقر والظلم والخوف والقمع، وهو عمق يجرد الإنسان من أبسط معالم الإنسانية في الوقوف إجلالاً لحالة “تسرب الحياة” وإن من جسد طاغية، عمق يجرده من ردود الفعل النفسية السليمة التي تصبغه بالحزن في أي لحظة موت، ثم تضاعف هذا الحزن عند موت طاغية تذكر لحظة موته بجرائمه وبضحاياه، بل هو عمق يجرده من التفكير المنطقي السليم الذي يدفعه لإدانة نفسه لمساهمتها، إيجاباً أو سلباً، في وصول الطاغية إلى هذه الدرجة من الوحشية والتي أوصلته إلى هذه الميتة البشعة.
بلا شك، أفرج مقتل القذافي عن قلوبنا، بإفراجه كربة إخواننا الليبيين وبتبشيره عهداً جديداً في ليبيا التي طال أسرها في سجن عته هذا الرجل المريض وطغيانه، إلا أن هذا الفرج لا تصاحبه فرحة تستدعي الاحتفال، بل هو فرج يستدعي الحزن على زمن طويل قضاه الليبيون في غياهب عقل رجل مهووس بنفسه، يستدعي الندم على صمت طال فكلف الغالي والنفيس، يستدعي عذاب الضمير على وقفة سلبية لا ترقى حتى إلى الاستنكار اللفظي الذي هو أضعف الإيمان.
شخصياً، كلما تذكرت وقفة قلمي السلبية قبل قيام الثورة تجاه القذافي وجرائمه، تذكرت استمتاعي بجنونه الإعلامي ووقوفي عند حد اتخاذه مادة تندر وسخرية دون أن أعي عمق الجحيم الذي يحفره هو لأهل بلده بجنونه ومجونه، تضاعف حزني وتكالب عليّ ضميري ينخره شعوري بالمساهمة في هذا الوضع ولو من أبعد المسافات. كلنا، واحد تلو الآخر، الصامت منا، الساخر، اللامبالي، هذا الذي يغير القناة ضاحكاً، وذاك الذي يكتفي بهز رأسه آسفاً، كلنا، واحد تلو الآخر، المصلي الصائم القائم الذي يكتفي بالدعوة على الطواغيت ثم يجلس بانتظار “المخلِّص”، كلنا، واحد تلو الآخر، ونحن ننتظر وننتظر، “نمطط” الأيام ببلادة الصبر، نؤكد لأنفسنا أن الصبر مفتاح وأن الفرج خلف بابه، أن سلامتنا أولوية تلزمنا الحائط نمشي في ظله حتى يأتي المنقذ، فننفخ عضلات الطاغية بصبرنا، نلهم وحشيته بوداعتنا، نضخمه بصغرنا، نصنع منه بالوناً منفوخاً ضخماً، يروعنا حجمه، فننسى أننا صنعناه، بطلا منفوخا… بأنفاسنا نحن.
أبعد كل ذلك نحتفل؟ أستحي والله أن أفرح، أستحي أمام جلال الموت، وأستحي أمام قسوة التاريخ الذي ساهمت، كما الملايين من الصامتين غيري، في صنعه. قد أتفاءل، أستبشر خيراً بمستقبل أفضل، أنتفض احتراماً لربيع عربي، متأخر نعم، ولكنه وصل أخيراً، أما الأعم من كل هذه المشاعر فيبقى حزناً قاتماً على عمر مهدر ودماء مراقة وزمن معطوب بأبطال من ورق.
ليتكم أيها الليبيون قدمتم طاغيتكم للمحاكمة عوضاً عن قتله، كنتم ستبدؤون عهدكم الجديد بخطوة أكثر إنسانية وعدالة، مبادئ هي زاد تحتاجونه اليوم لتقيموا أود ليبيا الجريح.
“آخر شي”: النائب مسلم البراك يهدد بتمديد اعتصام الطلبة حتى ليقفلوا الشوارع إذا لم تستجب الحكومة لمطالبهم، كيف يمكنه ذلك؟ “البركة فينا”.
“آخر آخر شي”: استقالة الدكتور محمد الصباح إدانة فاضحة للحكومة، فإلى متى تتشبث هذه الحكومة بأهداب الحياة السياسية؟ قصص السقوط المدوي حولنا كل يوم، فهل لابد لرحيلكم أن يكون مدوياً كذلك؟