تحميل إغلاق

وباء

وباء

لربما لم تشتد حاجتنا إلى الحديث عن علمنة الدولة كما اليوم، نحن في مأزق شديد، ومن اطلع على جرائد يوم الجمعة الماضي التي نقلت أحداث جلسة مجلس الأمة الطائفية لابد أنه أدرك حجم الخراب الذي ينخر في بنيان دولتنا.

يفوت القلب نبضة بين واحدة وأخرى والمرء منّا يقرأ ما ينقله نواب مجلس الأمة من أمراض اجتماعية ونفسية إلى قاعة “عبدالله السالم”. أكاد أكرههم بشكل شخصي وأنا أقرأ تدافع المخاط الطائفي من أفواههم، لأعود فتأخذني الشفقة، فهؤلاء نتاج عقود من التطرفات والتحزبات، من القمع والفساد، من حروب المال والسلطة و”الحريم”، لتوصلهم وإيانا إلى اللحظة الآنية، اللحظة التي يسعلون فيها سقمهم الطائفي في وجوه بعضهم بعضا، لتزداد أمراضهم وتشتد وهي تنتقل بينهم فتشوه قلوبهم ووجوههم.

ليت الحجر الصحي كان مطبقاً على أصحاب الأمراض النفسية الخبيثة، فتلك أنكى على المجتمع وأشد، فأما أمراض الجسد فتهدد الوجود ولكنها لا تفنيه عن بكرة أبيه، وأما أمراض النفس كتلك التي استعرضها النواب، فتلك تحولنا إلى أموات بأجساد حية، تلك هي الفناء، تعيشه وأنت تتنفس، تراه يقترب منك، يطرق بابك، يطبق على قلبك ولا تمتلك لرده سبيلاً. ليتنا نمتلك الحجر عليهم، نحبسهم في قاعة “عبدالله السالم” التي يعشقون، نضحي بالقاعة لننقذ الناس، نتركهم فيها يتناحرون حتى يفنوا أو نفنى. ليت طوفاناً ما يغسلنا، في قصة جلجامش التراثية، يأتي الطوفان ليغسل لغو البشر الذي أزعج الآلهة، وفي قصة النبي نوح يأتي الطوفان ليغسل ذنوب البشر التي أغرقت الأرض، فهل من طوفان اليوم يغسل هذا الشمع الأصفر المرير الذي ملأ آذاننا واندس في كل الفراغات بيننا حتى عدنا لا نشتمّ سوى رائحته المرة الخربة؟

في بحث مصغر رائع صدر عن مجموعة تنوير بقلم الصديق فاخر السلطان، يقول الأخير إن العلمانية “تعني فصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية (وليس الدين عن السياسة) والفصل بين رجل الدين ورجل السياسة، والعكس صحيح أيضاً، أي إبعاد المؤسسة السياسية عن التأثير في المؤسسة الدينية، وإبعاد رجل السياسة عن فرض ميوله الدينية. هذا هو التعريف الذي نصادفه في جميع المراجع الأجنبية تقريباً” (16). لندع عنّا التشويه المتعمد والمكرر للعلمانية: “كفر، طعن في الدين، مؤامرة ضد الإسلام”. لندع كل هذا جانباً ونتفق على المفهوم الميسر أعلاه لفاخر السلطان. نريد مؤسسة سياسية لا تلطخ المفاهيم الدينية بحساباتها ومصالحها، ونريد مؤسسات دينية لا تتدخل في السياسة، تلك اللعبة الخبيثة، ولا تستخدم فكرها الديني لإحراز مكسب سياسي، هكذا بكل بساطة. ليست تلك بحسبة معقدة ولا غاية صعبة المنال، وقد يكون في الشيخ خالد المذكور خير مثال لرجل الدين الذي أقر بإبعاد نفسه والقيم الدينية الجميلة عن السياسة، فأصبح محبوباً من الجميع، ومثالاً للقيم والمبادئ الأخلاقية التي هي، تنظيماً وتفعيلاً، يجب أن تكون هدف أي دين.

يقول فاخر السلطان “إن فصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية، يهدف في الأساس إلى حماية فكرة المواطنة وترسيخها” (18)، ومواطنتنا اليوم على شفا حفرة، يعمل فيها النواب معاولهم، يعمقونها بخطابهم المريض، وقريباً سيكوموننا فيها ويدفنوننا برذاذ كلماتهم. لم يؤتِ دفاعهم عن الحسينيات والمساجد إلا أمرّ الثمر، هم يتهابشون كرامات بعضهم بعضا في المجلس، لينقل معتلو المنابر صدى وبائهم للشارع، إهانة لهذا الصحابي، وتكفيرا وتشكيكا في عقيدة الآخر، ليتلقف الشباب الثائر صدى المنابر، باب مسجد مكسر هنا، كلام مهين عن شخصية دينية هناك، وفي لمحة، نصبح كلنا موبوئين لا ينفع فينا دواء ولا ينتظرنا إلا الفناء. إننا نُفني أنفسنا بأنفسنا، إلا إذا أخرجنا الشمع من آذاننا، وسكتنا لوهلة، وأصخنا السمع.

اترك تعليقاً