تحميل إغلاق

هند

أيا هند، كتب لك الخالق دوراً آخر، كتب لك سعادة من نوع آخر. مثل أميرة حزينة محبوسة في قصرها أنت، نمر عليك، نتطهر بحزنك ثم نمضي ونحكي الحكاية، وتبقين أنت أبداً جميلة وحزينة. تعلميننا درساً، ثمنه كبير على روحك.

نتقاسم كل دقائق حياتنا. في عجالة أيامنا، تختلط التفاصيل وتتداخل الأنفاس، أمد يدي بلا وعي إلى فرشاة أسنانه، أمرغ وجهي في المنشفة التي تبللت بمياه يديه، أحياناً أغافله فأتعطر بدهن عوده المفضل، وأما اللقمة فلا تحلو إلا إذا كانت «غموساً» في «الكتشب» الذي في صحنه والرز لا يبدو شهياً إلا على أطراف ملعقته، فلم لا نتقاسم أعمارنا كذلك؟

تسحبين أنفاسك بصعوبة ولكن بهدوء، تستقبليننا بجلال حزنك، كأنك أميرة ضامها الدهر وتأبى هي إلا أن تبقى شامخة فوق ألمها. ابتسامة شاحبة تقرص القلب تصاحب يديك المفتوحتين تضم وفد الصديقات الحاضرات وصيفات لمشهد ألمك، وكأنني بك تعتذرين بابتسامتك تكبلنا عناء مشاركتك الألم. للفقد هيبة ولألمه جلال يزيد، ويا لسخرية القدر، من جمال الإنسان، فكيف بالفقد والألم وهما يغلفان الصبا ويقسيان على مقتبل العمر فيفرقان بينه وبين رفيق دربه، يتناوب الألم على النفس وكأنه مطهّر حارق، يمسح مساحيق الوجه ويزيل غبار الروح فتبدو في أجل وأطهر وأنقى صورها. في رحاب معاناتك جلسنا، ضيوفاً على ابتسامتك الشاحبة، تلك التي تغرورق كلما مرّ صغيراك بفرحة طفولتهما، وقد حجبت عنهما الألم برسمها على وجهك، وداريت على طفولتهما بمحبة فاضت بفيض دموعك.

تلك الليلة تعذر النوم إلا من غفوات قصيرة مؤلمة، غلبتني أنانيتي وضعفي الإنساني الذي لا قدرة لي على قوته، تصارع حزن عينيك ومخاوفي وتناوبا على روحي طوال ليلتي، أغفو وأعود، وكلما استجد الوعي مددت يدي الى صدره، أشحذ كل حواسي حتى تتركز في راحة يدي فتصبح الغرفة بأكملها نبضات متتالية منتظمة. يأكلني تأنيب ضميري… أنانية… سطحية… خائنة حتى لجلال الألم، لكنني لا أستطيع، فأعود أحصي الدقات، تلك فيها وجه ابني، وتلك تحمل صورة ابنتي، والثالة تصرخ باسم آخر العنقود حبه الأول والأخير، تلك الدقة تذكرني بغضبته لفقدي ثلاثة من خواتم زواجنا، فاذا به يزج في اصبعي «خاتم حلي، ما يفيد معك الغالي»، وهذه الدقة تستحضر يوم علمني الغوص فنهرني لمخالفة تعليماته ولم يعف عني بالرغم من كل الدموع التي سكبتها استرضاءً واعتذاراً. أعود فأغفو على وقع الدقات وما تغني من ذكريات، ولا تلبث أن تفزع الروح فتعاند الأجفان فأبقى محدقة في صفحة وجهه اليمنى الى أن تهدهدني الدقات مرة أخرى لنوم أليم.

البعض منا على هذه الأرض أضحية، ملائكة يتلبسون أجساد البشر، يمتثلون للقضاء والقدر ويستقبلون جلال الألم… فقط… ليعلمونا درساً، ليذكرونا بما نملك، لينبهونا أن نقدس كل أيامنا ونستغل كل دقائقنا، ليقسرونا أن ننسى ونعفو، أن نتعالى على كراماتنا وخجلنا… أن نقول أحبك كل يوم… أن نبتسم في وجوه بعضنا كل يوم… أن نضم بعضنا ونستنشق عبير أرواحنا كل يوم… أن نغمس اللقمة في «كتشب» صحنه… كل يوم.

فلم لا نتقاسم أعمارنا؟ لا، لا أريد أن أتقاسمها، أريد أن أودعها في حسابه حلالاً بلالاً خالصاً لوجه صفاء قلبه، أريدها له عطية بلا حساب، فليبعثرها، لينام دقائقها، ليلهو بأيامها… فقط يبقى… ليقسو فيها، ليغضب ويؤنب، ليحب الصغيرة دوني ودون الدنيا… فقط يبقى… ليأخذ من العمر ما يتيسر وما لا يتيسر، ليأخذ منه أحلاه ليأخذ منه أغلاه… ويبقى، فقد يبقى… ويكون هو في وداعي… ثم يبقى.

أيا هند، كتب لك الخالق دوراً آخر، كتب لك سعادة من نوع آخر. مثل أميرة حزينة محبوسة في قصرها أنت، نمر عليك، نتطهر بحزنك ثم نمضي ونحكي الحكاية، وتبقين أنت أبداً جميلة وحزينة. تعلميننا درساً، ثمنه كبير على روحك. ليس في هذه الدنيا عدل، فلم يكن الدور بطوعك، لكنه قدرك، قدر أصحاب النفوس الشفيفة، أن تذكرنا بما نملك وأن ترينا كيف ترتفع النفس وتزهو بجلال الألم، هو دورك في مسرح الحياة لا فرار… ونحن نراك ونحبك ونتعلم منك… ونصلي لك.

اترك تعليقاً