تحميل إغلاق

قسوة

قسوة

في عمر أولادي هي، جلست بوجهها الدائري الطفولي، شعرها المعقوص برقة وعيناها الصافيتان، عيناها اللتان تتسعان بعفوية محببة كلما استرسلت أنا في الحديث. بعد أن انتهيت من الرد على سؤال لها حول الانتماء والجنسية والمواطنة والتقسيمات الجغرافية من حيث واقعية كل هذه المفاهيم وأسطوريتها، شبكت يديها وبحلقت فيّ بعينيها الشغوفتين قائلة، أنا من مواليد الكويت، لم أعرف غيرها موطناً، أحبها كما لم أحب أرضاً أخرى لكنني لم أشعر بيوم بالانتماء، بأنني ابنة هذا البلد. بعربيتها الرائعة فلسطينية الرتم، ذات مخارج الألفاظ القوية المركزة، أخبرتني أنها تعيش غربة مستمرة، لربما تقل بعض الشيء عندما تزور أقرباءها في الأردن، فتستمع للهجة مقاربة للهجتها وتعايش أناساً يشملونها ويقبلونها بحديثها وطباعها، لكن الغربة لا تتركها، هي هائمة دوماً، أخبرتني بابتسامتها الصافية الحزينة، تبحث عن أرض تسميها وطنا.

اثنان من أبنائي ولدا في الولايات المتحدة بحكم سنوات الدراسة هناك. الكبير عاش سنوات عدة هناك بعد مولده والصغيرة عاشت شهوراً أربعة هناك قبل عودتنا إلى الكويت، بعد قدومهما للدنيا بأيام تم استكمال أوراقهما كاملة، شهادات ميلاد أميركية، جوازات سفر، وكل الوثائق الأخرى. عند عودتنا للكويت تابعت معنا السفارة بدقة وضع “مواطنيها المقيمين في بيتنا” حيث نتلقى رسائل مستمرة من السفارة حول الأوضاع في الكويت وكيفية إحاطة “الأميركيين” الاثنين عندنا في البيت بالأمان والحماية. بكري يتذكر حياته في أميركا أما آخر العنقود فهي لا تتذكر شيئاً ولم تر أميركا إلا بعد سنوات عدة من عودتنا للكويت، ومع ذلك، ينظر الاثنان لهذه الأرض البعيدة على أنها وطن ثان. في البداية، اعتقدت أن إقامة ابني في أميركا سنوات عدة ولدت هذه المشاعر الطبيعية لديه، ولكن من أين للصغيرة هذه المشاعر؟ كيف تحب وطناً لم تعرفه أو تحيا على أرضه؟

هي ورقة الانتماء، هو اعتراف الحكومة الأميركية واهتمامها وتمسكها بهما، هو إعلاء حقوقهما وإن رفضاها، هو حمايتهما وإن لم يطلباها، هي رغبة هذه الأرض بهما وإن رغبا عنها، هي الرعاية والمتابعة التي يعلمان ويشعران بها، هي أرض تريدهما أن ينتميا إليها بحق ولادتهما على سطحها كونه حقهما الإنساني الأصيل، هي أرض تعلم قيمة الفرد الإنسان، وبأنها ستنتشر وتتضخم وتصبح إمبراطورية قوية عندما يكون لها مواطن في كل بقعة على سطح الأرض، هي أشياء كثيرة، ويبقى أن بكري وآخر عنقودي ينعمان بهذا الشعور الفاخر الرائع بالانتماء، انتماء لوطن يعيشان منعمين على أرضه، وانتماء لآخر تفصلهما عنه بحار وقفار وتقربهما منه ورقة واهتمام.

الإنسان ثروة، تتعاظم قيمتها عندما يستشعر انتماءه، عندما يستطيع أن يدعو الأرض التي ولد عليها وطنا، عندما يحبه مسقط رأسه، عندما تعتز وتعتني به بقعته الجغرافية التي تفتحت عيناه عليها. الإنسان الذي يحيا على أرض ينتمي إليها يصبح طاقة خلاقة، يصبح عزيزاً قوياً قادراً على الإنتاج والإبداع، يصبح عاطفياً مخلصاً مرتبطاً بعمق ومودة صافية بالأرض التي استقبلت قدومه للحياة، يضن بجهده إلا عليها ويغلي حياته إلا لها، يصبح جزءا منها وهي منه. أما الإنسان الذي يحيا في غربة على أرض لم يعرف غيرها، فهو الإنسان الذي يحيا أسوأ أنواع الحياة، هو عاشق يجاور معشوقته فلا تمد له يداً، هو منتمٍ بقلبه وعقله ومشاعره، منتمٍ بمعلوماته وطباعه وكلامه وطعامه، منتمٍ بسنوات عمره وبأمواله وتعليمه، منتمٍ بكل ذرة فيه إلا بورقته، وهي تلك الورقة، فقط هذه الورقة، تغربه وتفصله وتضعه في اللا مكان، ليحيا غريباً مهما طالت مدة إقامته ووحيداً مهما عاشر وعرف من الناس. هو إنسان يحيا حياة متناقضة، خاملة، لا يستطيع الانطلاق في رحابها لأنه لا يعرف كيف يحدد هويته فيها.

لست هنا أقول بتجنيس الصغيرة ذات العينين الشغوفتين، لست أرمي لمناقشة حق أطفال المقيمين بالانتماء لأرض يولدون عليها، فهذا الحديث ضرب من الخيال، ولكنني أتساءل ألا نرحم فنجعل الدنيا أسهل على المغتربين الذين لم يعرفوا وطنا، ولدوا هنا فلم ينتموا، وأصولهم من هناك ولم ينتموا، فلا هم هنا ولا هم هناك، هلا شملناهم في حياتنا وإن لم نشملهم في مواطنتنا؟ وأود أن أقول ألا نقتطع الحق من أنفسنا فننظر في من ولد على هذه الأرض وعاش عليها وتعلم فيها وسيدفن في جنباتها، لم يعرف غيرها أرضاً ولم يفقه غيرها أصلاً، نأخذه بجريرة ظروفه وننتقم منه بسبب حظه، نتركه بدون، بدون انتماء أو حظ أو حياة كريمة؟ المنطق والأنانية يقولان بأن نستغل هذه الطاقات البشرية التي تعيش على أرضنا، والأخلاق والإنسانية تقولان بأن نرحم القلوب والنفوس التي تحيا بيننا، فما بالنا؟ متى أصبحنا شعباً قاسياً وحكومة غير منطقية إلى هذا الحد؟

اترك تعليقاً