تحميل إغلاق

عيد سعيد

عيد سعيد

أقبلت وقد كبرت عشرين عاماً، هذه الصغيرة ذات التسع سنوات ربيعاً، بدت لي وكأنها سيدة صغيرة الحجم في الثلاثين. تبدلت كل الأشياء فيها، حركاتها، تعابير وجهها، حتى مرحها وضحكتها المجلجلة أفسحا الطريق لرزانة لا تتطابق وعدد سني حياتها. دخلت ببنطال أسود وجاكيت طويل غامق وحجاب بيجيّ اللون يطوق رأسها ويلتفّ بإحكام على رقبتها، اختفت حقيبتها الملونة اللامعة لتظهر محلها حقيبة كلاسيكية صغيرة الحجم محمولة في اليد. أقبلت فقبلت فجلست بهدوء، فلم تعد الضحكات والصرخات تناسبها، لم تعد الطفولة تليق بغطاء رأسها.

وقبل أن تقولوها قرائي الأعزاء سأقولها أنا، “هذه حرية شخصية، ولكل أم الحق المطلق في توجيه أبنائها، لا يوجد أم تريد الضرر لصغيرتها، هذا واجب شرعي وما فعلت والدتها سوى أن طبقته، بل هو الأفضل لها حتى تعتاد حجابها من صغرها، أوامر الله ليس فيها فصال، وما شأنك أنت أيتها الكاتبة؟ ما شأنك أنت؟”. لا شأن لي ولا حق لي سوى أن أحزن وأن أنكسر مع انكسار طفولة هذه الصغيرة. ترى، ماذا خبروها قبل أن يلبسوها حجابها؟ أعلم أنهم احتفلوا بها “تكليفا”، فهذه الحفلات أصبحت مؤخراً موضة شائعة لتشجيع وتحبيب البنات، ولكنني أقصد ماذا قالوا لها في بداية الأمر عندما نقلوا لها خبر تحجبها؟ “هو أمر الله” “ولم يأمر الله صغيرة مثلي بالحجاب؟” “لأنك كبرت وبلغت سن النضج، لأن عيون الرجال ستتبعك، لأنك مادة للإغراء والشهوة الآن” حسناً، أنا متأكدة أنهم لم ينطقوا هذه الكلمات، ولكن المعنى في النهاية واحد، تحجب الصغيرة لأنها أصبحت كبيرة، بالغة، ينظر لها الرجال، تثير غرائزهم، فلابد من حمايتها، لا بتحجيم الشهوات المريضة ولكن بتغطيتها، تغطيتها هي بتسع سنواتها. لابد للرسالة أن تصل، أن كبرت الطفلة، أصبحت امرأة قابلة للزواج، تحرم على الأولاد رفقائها، تحمل على كتفيها الصغيرين مسؤولية الحشمة التي لا تتناسب والفساتين الوردية مقصوصة الأكمام أو قصيرة الأطراف. لم يعد “عنقوصا” شعرها ظاهرين، ولم تعد طفولتها بينة، كل شيء تغطى بدكانة القماش الذي يخبرنا بوصولها إلى سن بلوغ لربما لم تبلغه بعد، كل صخب للطفولة هدأ، كل ذلك عن أول تسع سنوات من عمرها فقط.

وهل الموضوع ينطوي فعلاً على حرية اختيار، هل اختارت هي؟ بل هل اختارت أمها؟ عندما تقول كتب التراث ومنابر المساجد والحسينيات لهذه الأم صباحاً مساء إن الحجاب واجب، من تمتنع عنه تحترق في نار جهنم، تعلق من مناطق جسدها الحساسة وتعذب كما لم يكن العذاب من قبل، هل بعد ذلك هناك حرية اختيار؟ هل يمكن للحرية أن تتوازى مع هذه الكمية من التخويف والتهديد بأشد أنواع العذاب والبطش بالجسد والروح وأبشعها؟ أي حرية تبقى وأي اختيار يتجلى لامرأة تهدد في عقر جسدها وفي أخص خصوصياته وأقدس أجزائه؟

المفارقة الحزينة أن والدة الصغيرة تحجبت في بداية عشرينياتها أو بعد تجاوزها ودون ضغط أو أمر، اختارت ولم يكن لابنتها أن تختار، في الحقيقة لم يكن لأي منهما أن تختار، وهكذا غابت الطفلة وظهرت هذه السيدة الكبيرة، برزانتها المصطنعة المطقمة مع حجابها، شيء ما في روحها تغير، في وجهها، في حركات يديها. وشيء ما في قلبي تبدل، إنه فرح العيد، أوسع الباب لحزن مديد. كل عام والجميع بخير.

اترك تعليقاً