تحميل إغلاق

طعم الذكريات

طعم الذكريات

لازالت تلك الذكرى متعلقة بأهداب ذهني، كأنها مشهد قديم بالأبيض والأسود، كأنها صورة باهتة مضببة أكلها الهواء والضوء والزمن. في المرحلة المتوسطة من الدراسة كنا، في منتصف الثمانينات، زميلتي عراقية الجنسية، بهية الطلة، ذات ملامح حادة أبية وقصة شعر قصيرة ولكنة عراقية محببة، ها نحن نقف في ساحة المدرسة نتحدث في السياسة، فتيات غرات لا تفقه بعد من الحياة الشيء الكثير. أتذكرها تقول “آني أحب صدام حسين هوايه،” فأتلفت أنا حولي وأعلق بخفوت، “صج والله؟” أعود للبيت وأرمي حقيبتي في غرفتي وأتجه راكضة لمكتب لوالدي، هذا المكتب الذي طالما بدا لي أنه مغارة علي بابا غائرة العمق، صفوف من المجلدات تختبئ خلفها صفوف أخرى من الكتب، لتقف خلفها صفوف أخرى من الكشاكيل القديمة. في المقدمة كتب القانون، خلفها تختبئ كتب المسرح والفن والروايات التي شكلت الأفكار والهويات آن ذاك. أبادره: “بابا صديقتي تحب صدام حسين، وأنا أسمعكم تقولون إنه يقتل الناس ويدفنهم في حفر كبيرة، هي لم تصدقني حين أخبرتها بذلك.” ابتسم والدي ابتسامة بدت قلقة وقال “القصص كثيرة والناس تموت.” لم أفهم ما يعنيه حينها، لكنني أدركت من الإجابة العصية صعوبة الاستمرار في الحوار.

ثم توالت الحوارات بعد ذلك. أنتمي أنا لأسرة شيعية كويتية، كان لها موقف من صدام حسين حتى في أوج العلاقات الطيبة معه. أتذكر شغف والدي بالعراق وسفره لها بين الحين والآخر، إلا أنني أتذكر كذلك نقده الصارم للحكومة والحاكم، وهو نقد ما فهمته تماماً إلا بعد أن كبرت بعض الشيء وأصبحت قادرة على استيعاب كلمات والدي ومبادلته إياها بأسئلة. كان يجيب بتمهل حريصاً على أن يكون لي رأي أشكله أنا (بتأثير منه) في الموضوع، إلا أنه دوماً ما كان متعاطفاً مع صديقتي العراقية وغيرها من الزميلات العراقيات الموجودات في المدرسة. “لا تلحي في الحوار بابا، أنت لا تعلمين ظروف الآخرين.” لم يخبرني بابا قط ما هي الظروف التي تستوجب مني التعاطف مع صديقاتي العراقيات، لكنها بدت ملحة في حديث والدي ورقرقة صوته. وصلتني فكرة أن الواقع خطر وأن عليّ أن أكون رقيقة الحوار، وهكذا فعلت.

تمر الأيام ونقترب نحن من أواخر الثمانينات، وفي ذلك اليوم الذي لا أنساه، سمعت زميلة لي تمشي خلفي وتنادي “شوشو…شوشو”، وحين سألت بقية الزميلات عن معنى اللفظة الفكاهية الغريبة، فهي لا تمت لإسمي بصلة حتى أتوقعها تغنيج أو دلع، أخبرتني الزميلات أن شوشو هو اختصار “شيعية.” لقد كانت زميلتي تضطهدني وتهينني. لم أخبر والدي أو والدتي وقررت أن أتعامل مع الموضوع بنفسي بعد أن عرفت أنني مختلفة وأنني غير مقبولة لأسباب أبعد من تجعد شعري وطول قامتي وقلة ملاحتي، لقد كنت غير مقبولة في المدرسة الواقعة في أحد أرقى مناطق الكويت وبالتالي كان طالباتها من الأغلبية السنية ومن أعلى الأسر مستويات اقتصادية، لأنني من أسرة شيعية. “سألقن هاته الفتيات درساً”.

توالت المواقف والصراعات، لم أكن لأغلق فمي منذ أن تعلمت فتحته، فكان والدي يذهب ويجيء من إدارة المدرسة، مبتسماً بهدوء، لا أدري افتخاراً بي أم شفقة على نفسه أو علي. لم تكن الشيعية هي مشكلتي، فحقيقة الأمر أنني تربيت في أسرة ليبرالية ولم أكن أعرف من الفروق المذهبية سوى القصص التاريخية منها التي جعلت الموضوع كله يبدو وكأنه رواية خلابة قادمة من غابر الزمن.

كان الشعور بأنني أقلية هي المشكلة الحقيقية. ثم أتى الغزو العراقي للكويت، وانقلب الرأي العام لأصبح أنا ولو لوهلة قصيرة من ضمن أغلبية أيديولوجية، كلنا أصبحنا نرى صدام على ما هو عليه، طاغية مستبد، يدخل العراق في حروب لا حاجة لها بها، يقتل أهل بلده في إبادات عرقية ويدفنهم في مقابر جماعية، يرمي بعض المدن بالمواد الكيماوية، بل ويقتل زوجا ابنتيه هكذا بدم بارد وعلى مشهد من العالم أجمع. لقد ثبتت الرؤية، نقد وتحليل بابا كله كان حقيقياً.

وكبرت، كبرت كثيراً وبهت شعور الغضب من سخرية زميلة المدرسة، أصبحت أتذكر الحادثة بشيء من الحنين في الواقع، الحنين لذلك الزمن، لتلك المرحلة بل وكذلك للمضايقات والمشاكل التي صاحبتهما. كم تغير الحال من الأمس إلى اليوم. اليوم أصبح التناول الطائفي “مش على الموضة”، حيث نادراً ما تجد أحد يخاطبك بمشاعره الطائفية النيئة بمباشرة ووضوح، لا أحد طائفي علناً اليوم إلا المتعصبين الذين يتداولون ألفاظاً مثل الروافض والفرس والتي يقابلها لفظ النواصب عند الفريق الآخر، والتي جميعها أصبحت مدعاة فكاهة وتندر. “الكل يحب الكل” ذلك إلى أن يأخذ الموضوع منحى جدي.

طفح على صدري فجأة هذا الشعور الطفولي بالغبن، لا أدري لماذا تحديداً من هذه التغريدة وفي هذا اليوم. التناول الطائفي له استقبالاته الفكاهية على وسائل التواصل والتي تعتبر الوسيلة الأنجع للتعامل معه، فلماذا قذفت بي هذه التغريدة تحديداً لأكثر من ثلاثين سنة للوراء؟ كنت قد كتبت أعلق على مقابلة رغد صدام حسين مشيرة لتوقعي لتوجهها الدفاعي، فهي بالتأكيد لن تخرج ناقدة لأبيها، ذلك أنه على الرغم من أننا كبشر يفترض أن نصل لمرحلة نضج نستطيع أن نرى خلالها ما هو أبعد من برمجتنا الطفولية، إلا أن رغد لم تكبر في أسرة معتادة، لقد كبرت في “عش النسر”، تشبعت تماماً بمنظور أبيها وبسلوكيات أسرتها، ولن تقف اليوم “لتقص الحق من نفسها” مقدمة نقداً حقيقياً للنظام العراقي السابق أو لتوجهات والدها الدموية السياسية والشخصية. أتصور أن الموضوع بالنسبة لرغد هو موضوع استمرار في الحياة، فحتى تستطيع أن تستمر بعد أحداث مثل قتل أبيها لزوجها ثم إعدام الأب على مرأى من العالم أجمع ثم تحولها هي إلى لاجئة، فلا مناص لها من أن تقنع نفسها بالحكاية المروية، حكاية أسرة مخلصة خانها الزمن والناس.

أتى تعليق إحدى المغردات على تويتر ليشير إلى أن رأيي هذا يشككها في كل عملي الحقوقي مشيرة إلى أنها ترى أن الأذرع الفارسية في الخليج هي خطر على القومية العربية (لست قادرة على الاقتباس المباشر بسبب من إزالة المغردة لإثنين من التغريدات التي ورد فيهما الحوار). “الأذرع الفارسية في الخليج،” رنت الكلمات في قلبي تماماً كما رن النداء الرفيع لزميلتي في المدرسة “شوشو، شوشو.” الزمن يتغير والأسلوب يتغير ويبقى النداء الرفيع بذات الطعم، سيخ محمي في الأذن.

وكنتت قد أشرت في بداية كتابتي لمعاناة العراق من نظام صدام وكل الأنظمة التي لحقته، لكن المغردة ما استطاعت رؤية الكلمات بوضوح، لربما ضببتها صورة أجداد أجداد أجدادي القادمين منذ الثلاثمئة سنة من إيران إلى البقعة المطلة على الخليج تلك، أزعجها ضجيجهم وهم يقودون قوافلهم عبر الصحراء، متبادلين الحوار بفارسية رصينة والتي تحولت مع الزمن إلى “عجمي” ركيك. كل رأي لي في نظام صدام وفي الأنظمة التي لحقت نظامه سينظر لها بهذه العين، عين شيعية أسرتي، فتارة أنا رافضية متبلية على “حامي البوابة الشرقية” التي أغرقها هو بالدم، وتارة أنا منافقة مداهنة من حيث نقدي “لفاتحي البوابة الشرقية” والذين حفروا من عندها قناة دم لتسري في كل العراق. هذا موت وهذا موت، والناس لا تزال تراقب يدك، مضمومة على صدرك أم مسدلة على جنبيك؟

أعادني التعليق سنوات بالزمن، إلى تلك الصراعات بيننا كزميلات مدرسة، صغيرات يفترض أن نتبادل كراسات العلوم ونتساعد في حل مسائل الرياضيات ونتضاحك على الفتيان الذين سينتظرون خارج بوابة المدرسة في نهاية اليوم الدراسي بلا أمل في تواصل بأكثر من النظر، إلا أن الكثير من واقع علاقاتنا كان مختلفاً، عاكساً لفترة الثمانينيات البغيضة تلك، معجوناً بالصراع على طوائفنا و”تنابزاً بالألقاب” في وقت الفسحة وتغاضب وتجافي بسبب وقائع سياسية لا نفقه منها شيئاً.

لا أفهم لماذا يحدث ذلك بين حين بعيد وآخر، تعليق ما في لحظة ما يعيدني سنوات للخلف، يبعث في ذاكرة استطعامي مرار بعض الذكريات رغم أن الزمن حولها كلها لذكريات طفولية محلاة. بلا شك، للمغردة هذه حقها في أن تبوح برأيها، وساءني اضطرارها، إن كانت قد اضطرت، لإزالته من على تويتر، ولي الحق أن أمسح ذكرياتي وأتألم، ولربما أطيب خاطر تلك الصغيرة ذات الشعر المجعد، أن لا تحزني، زميلتك كانت تحبك، والدنيا ستمضي بك وبها، ولكل منا شخص يمشي خلفه “وينبزه”، فلا تحملي زميلتك أكثر مما تحتمل، وامرحي بعض الشيء، غيري سحنتك المقلوبة هذه ومظهرك المسن هذا وأنت بعد مراهقة، وعيشي السعادة، الآلام والأحزان الحقيقية قادمة.

اترك تعليقاً