صورة
أتذكرها ذات بهجة، عندما كانت الحياة أكثر طبيعية، عندما كانت تصافح الناس، عندما كانت تلتقط صوراً لنفسها، عندما كانت تستشير قلبها في حياتها قبل أن تستشير عمامة ما في مكان ما. أتذكرها كأنني أستذكر التاريخ، كأنني أقرأ السياسة، كأنني أحلل التغيير، كأنني أشهد كيف أمسكوا بأعناقنا وضغطوا على رقابنا، فتحولت البهجة حراماً ولمسة اليد إثماً وخصلة الشعر عذاباً متربصاً فور الموت. أتذكرها فيحن قلبي لها ولي حين كنا أصغر، حين كنا ألطف، وكانت الحياة أبسط. لم أكن بعد قد تعمقت في التحليل، لم أكن بعد قد عرفت ما في كتب التراث، لم أكن بعد قد قرأت تواريخ الأديان والإنسان، لم أكن بعد قد اطلعت على الفلسفة والمنطق وعلوم الفيزياء، وهي، كانت بعد تصافح وتلتقط الصور وتدفع خصلة شعرها للخلف بتاج يحوط سواده الجميل. كنا كلتانا ألطف وأرق، أنا أعرف أقل وهي تشعر أكثر، فكنا نلتقي في المنتصف، المكان الطبيعي في الحياة.
أتذكرني ذات بهجة، عندما كانت الحياة أكثر طبيعية، عندما كنت أعتقد أن التقوى هي ابتسامة في وجه غريب، أن الورع هو كلمة طيبة في أذن منكوب، أن الجنة في كل مكان في الحياة وما بعد الموت وأن النار فكرة بعيدة خارقة لا وجود لها إلا في عقول المذنبين، المذنبين بحق، زميلتي التي ضربت أخرى، ابن خالي الذي سخر من سائقهم، ابنة جيراننا التي فتنت على العاملة في منزلهم، كنت أعتقد بكل ما في قلبي أن هؤلاء هم فقط من يعتقدون، ولكن لا يصلون، النار، أما بقيتنا، البشر الطيبين، فلا فكرة لدينا غير فكرة الجنة بمروجها ونسماتها وأنغامها الجميلة. نعم، ذات بهجة كنت أعتقد أن صوت البيانو ينطلق في أنحاء الجنة، وأنني وكل أحبتي سنكون في الجنة، من تحفظ الآية ستدخل الجنة، ومن تعطي خمسين فلساً إضافية لبائع الآيس كريم ستدخل الجنة، ومن تحسن ربط شعرها في “عنقوص” ستدخل الجنة، ومن تلبس فستاناً جميلاً ستدخل الجنة، كلنا، إذا كنا ليني الكلام مبتسمي الثغر سندخل الجنة، فلم يخطر لي ولا في أبشع أحلامي أن للحرمان (إذا كان الحرمان ممكناً أًصلاً) من المكان الجميل هذا علاقة بشَعرنا أو بكف يدنا أو بكعب قدمينا المكشوفين، علاقة بالهلال أو الصليب أو النجمة، في جمجمتي الصغيرة تجلت علاقة الجنة الوحيدة مع طيبة القلب، كل طيب سيلاقيني وألاقيه هناك، أما الأشرار فسيختفون.
أتذكرنا ذات بهجة، عندما كانت الحياة أكثر طبيعية، عندما كان الإيمان أكثر بساطة. أتذكرنا عندما كان الدين خرائط نفترشها أنا ووالدي، تحكي قصص هجرات وثورات، عندما كنت مقتنعة أن كتب الشعر كتب دينية بجمال لفظها، أن كتب الفقه والشريعة كتب فلسفية بما يحق لي من التفكير والقبول والرفض فيها، أن الكل مجمع على أن أم كلثوم ستدخل الجنة وأنا أرى والدي، أتقى وأعظم رجل في الدنيا، يستمع لها في السيارة ويقرأ القرآن في البيت، عندما كان لحكايا الرسل وصحبهم الأتقياء أشكال لطيفة مسالمة تتجلى في ذهني مثل فيلم كارتون ملون أستعيده بشوق ومتعة، عندما كنت مقتنعة أن ذاك الزمن هو زمن ثورة فقراء، ثورة إنسانية من أجل الحق، قبل أن يأتوا بتوحشهم، فيفسدوا علي قصصي وقناعاتي، ويمنعوها هي من أن تلتقط صورة.
أتذكرنا ذات بهجة، عندما كانت الحياة أكثر طبيعية، عندما كانت الدنيا أقل تناقضاً، عندما كنت أنا أقل غضباً وهي أكثر منطقية، فلم أكن أنا أعتقد أن هناك تطرفاً يتربص بحريتي ولم تكن هي تعتقد أن صورة لها تتربص بجنتها الموعودة. كل شيء تغير، أصبحت أنا سيئة الظن وأصبحت هي متناقضة المبدأ، أنا أظن رأيها إهانة شخصية لي، وهي تظن شعرها المكشوف في صورة إثمها الأكبر، لا دعم العمالة الذي استلمته على مدى سنوات وهي في بيتها دون أن تقدم خدمة عمل حقيقية. غَضِبتُ غضبة قصيرة العمر، غضبة سرعان ما انكمشت إلى وخزة حزن نابضة، مزعجة ليس بألمها البسيط ولكن باستمرارها واستقرارها عميقاً في النفس، وخزة حزن مسنونة تنغز قلبي بانتظام مؤلم منذ أن اكتشفت أن الموضوع ليس شخصياً عائداً علي، الموضوع فردياً خاص بها، الموضوع ليس انعدام ثقتها بي، لكنه انعدام ثقتها لربما بالحياة، وكأن الحياة مؤسسة غواية تتربص بها في كل لحظة، وحتى تتعدى غوايتها وتصل للجنة، لابد لها أن تكون قاسية مع نفسها، مع من تحب، مع الحياة بطبيعيتها. كم كان الوصول للجنة سلساً وسهلاً… ذات زمن، ذات بهجة.
عاقبتها أنا في دخيلة نفسي بالمقارنة بين التزامها المبدئي والتزامي، لكن المقارنة ما زادتني إلا غربة وتعذيباً وحنيناً لها ولنفسي عندما كنا ذات يوم على غير ما نحن عليه اليوم. أخذتني العزة بالإثم فارتفعت فوقها براحتي مع نفسي، بما أعتقده تطابقاً في قولي وفعلي، ولم أحسب الضغط الذي دفع بها للتناقض، لم أفكر بالخوف المطبق من النار والرغبة المزمنة بالجنة التي جعلتها تتخلى عن بساطة الحياة وبهجتها. لم أفكر في أن معركتها أشد وأقسى من معركتي، عذاباتها أكثر ترويعاً، مخاوفها أكثر شراسة، فحكمت عليها بقسوة وأنا التي أوصلتني المصادفة المحضة إلى اتفاقي المستريح مع نفسي. كنت أودها أن تقاوم محيطها، ولكن هل أنا قاومت محيطي؟ كنت أنتظر منها أن تكون أكثر بهجة وأقل عنفاً مع الحياة، ولكن هل أنا أكثر بهجة وأقل عنفاً؟ لربما نحن على طرفي نقيض، ولكن المحصلة واحدة، أنا وهي اللتان كنا ما عدنا، والبهجة التي كانت ما عادت، وكل شيء إلى زوال.
“آخر شي”: زيارة ترامب وتداعياتها، ماذا تخبرنا عن أنفسنا نحن سكان الخليج في تناقضنا وتزلفنا ومخاوفنا وأخيراً… في رغباتنا؟