تحميل إغلاق

شيء من الأمل

شيء من الأمل

انتهت انتخابات البرلمان الكويتي مع نهاية يوم الخميس الماضي 29 سبتبمر بنتائج تشير بوضوح لتحقق الوعد الذي قطعه ولي العهد الشيخ، مشعل الأحمد، للشعب الكويتي في يونيو الماضي حين قال “لن نتدخل في اختيارات الشعب لممثليه، ولن نتدخل كذلك في اختيارات مجلس الأمة القادم في اختيار رئيسه أو لجانه المختلفة ليكون المجلس سيد قراراته”، والذي هو وعد على قدر ما كان مبشرا بسياسة وإدارة مستقبليتين مختلفتين، على قدر ما جاء اعترافيا مقرا بوجود تدخلات سابقة وملمحاً، بدون أدنى شك، لحجم الأذى والتعقيدات الناتجة عنها، ذلك أن الوعد بإيقافها هو بلا شك إقرار بخطئها كأسلوب وإدارة سياسيين.

لقد انعكس هذا الحياد الحكومي بوضوح على نتائج الانتخابات التي أتت مثقلة بالوجود المعارض، ليحتل المعارضون القادمون من كافة الدوائر الانتخابية أكثر من نصف مقاعد المجلس في إشارة واضحة، والتي تبدت بقوة منذ فترة الانتخابات السابقة وصولاً للحالية، لحالة الغضب ونفاذ الصبر التي سيطرت على الشعب الكويتي ككل. كما وأن نسبة التغيير التي وصلت إلى 60 بالمئة في كافة الدوائر الانتخابية، حيث خسر عشرون نائبا سابقا مقاعدهم، إنما تدل، مجددا، على نفاد صبر الشارع وعلى رغبته العارمة في التغيير، وهي الرغبة التي تجلت في هذا التغيير الجارف في الموسمين الانتخابيين الأسبق والأخير.

كما وارتفع عدد المقاعد الشيعية ليصل إلى تسعة مقاعد برلمانية، وهو ارتفاع مثير للانتباه نظرا إلى أن الوجود الشيعي البرلماني يعتبر وجودا حكوميا مواليا فيم المجلس الجديد تغلب عليه الصبغة المعارضة. ينفرد الدكتور حسن جوهر كنائب ينتمي للطائفة الشيعية بموقع وطني محايد وقوي، حيث تفرد وحده بين النواب الشيعة في التمسك بمبادئه المعارِضة على مدى السنوات السابقة، وهو موقف مبدئي تجلى وتمسك به الدكتور في أجواء لم تكن رياحها لصالحه مطلقا خصوصا بين قواعده في دائرته الانتخابية الأولى المثقلة بالمكون الشيعي مما خسره الكثير في السابق، ومما، ويا للمفارقة المعبِّرة، أربحه مؤخراً ثقة الشعب الكويتي بأكمله تقريباً وبأطيافه الطائفية المختلفة. ولقد حصدت التوجهات الإسلامية السنية بمختلف أطيافها على ثمانية مقاعد تقريباً، وهو نجاح بطعم التراجع الذي بدأ عموماً في العالم العربي منذ انهيار منظومة الإخوان المسلمين في مصر بعد فترة الحكم الشائكة وما تبعها من تراجع للمد الإسلامي السياسي في المنطقة، والذي استمر حتى يومنا هذا. يبدو أن كل ما تبقى للإسلاميين المحافظين في الكويت مؤخراً هو الاعتراض على الأنشطة الاجتماعية العامة، الحفلات، الأعمال الفنية، وطبعاً ملابس النساء، وهي محاولات تبدو وكأنها محاولات يائسة لإبقاء الرقبة السياسية فوق سطح البحر الهائج الذي تعالى موجه فوق أيديلوجياتهم القديمة الآخذة في الانزواء.

كما ووصلت للبرلمان امرأتان، وهو وصول نسائي شحيح في إطار الحقيقة الصارخة للأغلبية النسائية في الشعب الكويتي، ولهذا الشح النسائي في مراكز صنع القرار أسباب عديدة سبق وأن تناولتها في مقالات سابقة، إلا أن المفارقة أن هذا الانتصار أتى بطعم مرار من حيث أن هذا الوصول النسائي لم يخلو من تمييز طبقي، عند إحدى النائبتين، والمنعكس في آرائها السابقة، مقترحاتها ذات الصبغة التمييزية، أيديولوجيتها البرجوازية المتشكلة من منطلق الطبقة المسيطرة، وتفاعلها السلبي مع القضايا والمفاهيم السياسية والإنسانية الأهم في الكويت، مثل قضايا انعدام الجنسية، ومفاهيم الانتماء الوطني المدني. إلا أنه براغماتيا، وأنا فاشلة في اللعبة البراغماتية هذه، فإن الوجود النسائي، رغم التحفظ على بعضه، لابد أن يكون مؤثر أولاً ولو شكلياً من حيث تقويم الغياب المخجل للمرأة عن البرلمان وثانياً من حيث التأثير التشريعي فيما يخص قضايا المرأة. تُقدِّم النائبة الأخرى التي وصلت بعدد لافت من الأصوات للبرلمان أملاً في تجديد الخطاب السياسي وفي الارتفاع به إلى درجة مستحقة من الجدية والرصانة، يبقى أننا ننتظر مشاريعها وتصويتاتها القادمة والتي نتمنى أن تأتي على مستوى توقعات الشارع وحجم ثقته التي أولاها إياها.

ولقد تحمس الشارع الكويتي كثيرا للمرشحة المنقبة، موضي للمطيري، التي أتت بخطاب مختلف وغير متوقع في إطار قولبة ساذجة لها حكمت عليها بالمحافظة الأيديولوجية، لتأتي هي بخطاب متزن معتدل أثار الانتباه وحطم القولبات وجذب اتجاهها آمال الناخبين. لم تنجح موضي لأسباب عدة، بعضها هي ذاتها الأسباب التقليدية التي تعيق أي امرأة، دع عنك امرأة ذات خلفية قبلية وفي دائرة ضخمة مدججة بالمرشحين الرجال، إلا أن أحد أهم أسباب عدم نجاحها لربما يتجلى في غيابها المستغرب عن الساحة الإعلامية، حيث لم يكن لديها مقر انتخابي، موقع الكتروني أو أي حساب على وسائل التواصل، مما صعب التواصل بها وأفقد الشارع الشعور بالاطمئنان والقرب اللازمين لإنجاحها. أتت موضى من الشارع العام، من طبقة عادية ينتمي معظمنا إليها، مما أشعرنا جميعاً على اختلاف أيديولوجياتنا، بدرجة من التواصل بها وبحقيقيتها وواقعية خطابها. ورغم أن اختفاؤها صعب مهمة الناخبين في إيصلها، إلا أن ترشحها وأخريات في الواقع في دائرتها خصوصاً شكل بكل تأكيد لفحة هواء في قيظ الترشح الذكوري المسيطر. تجربة موضي مهمة وستكون علامة فارقة لنساء الطبقة الوسطى والأقل من الوسطى والمتطلعات للعمل والمشاركة السياسيين.

ولأن الكويت هي جزء لا يتجزأ من منطقة الخليج المعجونة، لازالت، بالفكر الأبوي الذي يبجل الرموز ويتطلع إليهم للخلاص، فقد فاز النائب أحمد السعدون بما يزيد عن الإثني عشر ألف صوت، وهو الرقم الأعلى في انتخابات الصوت الواحد والتي بدأ العمل بها منذ 2012 والتي قسمت الشارع الكويتي إلى مشاركة ومعارضة حادتين. احتل السعدون المركز الأول بفارق ستة آلاف صوت تقريباً عن المركز الثاني الذي كان من نصيب النائب مهلهل المضف، وهذه إشارة مهمة لتوجهين سيكولوجيين يحكمان الشارع: التوجه السيكولوجي الأول يتبدى في الرغبة العارمة في الخلاص من الفساد الرابض وما تبعه من انهيارات وتراجعات مما دفع الشارع الكويتي بالعموم وناخبي الدائرة الثالثة بالخصوص بالدفع بالسعدون، كرمز معارضة قوي وكرجل سياسي محنك ليكون “المخلص” الذي سينقذهم بقيادته القوية، التي يتوقعون، من كل الأذى الذي كان، وأما التوجه السيكولوجي الثاني فيتبدى في تمسك العرب عموماً وأهل الخليج على الأخص بالرموز، بالأشخاص لا بالأفكار، مما يجعلهم دائماً مناصرين لرموزهم، غالبين أو مغلوبين، مصيبين أو خطائين، مصرين على تبجيلهم ووضع كافة الآمال على أكتافهم. لذا نجد أن الشعب الكويتي بعمومه يعول كثيراً على السيد أحمد السعدون، واضعاً أحمالاً إصلاحية غير عقلانية أو ممكنة على كتفيه، ذلك أن الإصلاح الذي يتطلع إليه الشعب الكويتي لا يمكن أن يتحقق من خلال “بطل” منفرد، هو إصلاح يحتاج لأكثر بكثير من مجرد تغيير الشخوص، هو يحتاج لتغييرات إدارية عميقة وتشريعات سياسية مهمة لربما أكثرها استعجالاً هو تشريع ينظم العمل الحزبي في الدولة وآخر يحمي المال العام ويفرض شفافية تامة وعلى أعلى المستويات في التعامل معه.

ولقد جاء فوز الدكتور عبيد الوسمي، أحد رموز المعارضة الجدلية، ركيكاً معبراً من خلال التراجع الحاد في أرقامه والذي يعتبر مؤشر واضح لفقدانه لثقة الشارع والناتج عن التغيير الحاد في مواقفه السياسية والنفور المتزايد من خطابه الحاد الشخصاني الذي لطالما انتهجه دكتور القانون، للأسف، في تواصله العام وفي استعراضه لآرائه وتوجهاته. إلا أنه ورغم التناقضات الصارخة في مواقف الدكتور والمنازعات فقيرة النضج السياسي والخطابي التي خاضها واستمر في خوضها وصولا إلى حملته الانتخابية الأخيرة، إلا أن عددا جيدا من “المريدين” لم يستطيعوا التخلي عن “الرمز” ولا الاعتراف بالسقطات السياسية المفزعة. أتى الولاء العشائري والتمجيد اللامتناهي للرموز ليتغلبا على كل توجه تقييمي وإصلاحي مدني حقيقي، ووصل الدكتور الوسمي رغم السقطات السياسية والمبدئية الهائلة. يبقى أن الفترة القادمة ستشكل مرحلة مفصلية في الحياة السياسية للدكتور، إما أن يستعيد شيء من بريقه السياسي أو قد يصبح هذا المجلس هو الأخير بالنسبة له.

رفعت الحكومة يدها عن الانتخابات، وكانت هناك محاولات، بعضها حقيقي، لإيقاف الممارسات السياسية الفاسدة كشراء الأصوات، وأتى المجلس الحالي ليصطبغ بصبغة معارضة قوية ونَفَس “يبدو” إصلاحياً حقيقياً. ننتظر ككويتيين الآن تغييراً حقيقياً مستحقاً، شي من التحرك من “المكانك سر” الذي بقينا فيه لزمن طويل. أول المبشرات ستتحقق من خلال إقرار قوانين حقوقية تنصف عديمي الجنسية والمرأة الكويتية، فإذا تعامل النواب مع هذين الملفين الشائكين، ساعتها سنصدق أنهم قادرون على إصلاح الصحة والتعليم والمرور ومشكلة حصى الشوارع المتطاير وترهل تطبيقات الحكومة الالكترونية. لن يكون إصلاح الأسهل ممكناً إذا بقينا نتفادى الأصعب والأهم. نتطلع بكثير من الترقب وشيء من الأمل.

اترك تعليقاً