تحميل إغلاق

سيلفي

صدر قبل أيام في الكويت قرارا بتعيين ثماني نساء كأول قاضيات في المحاكم الكويتية. قوبل هذا القرار بالكثير من مشاعر الفرح والفخر وبمثيلها من مشاعر الاستنكار والاستهجان المتوقعين. وفي الواقع هذه الخطوة كانت منتظرة ومتوقعة منذ سنة 2014، وذلك على إثر السماح للمرأة في حينها ولأول مرة بالتقديم لوظيفة وكيلة نيابة، وهي الوظيفة التي تقود الراغبات من الوكيلات إلى السلك القضائي بشكل طبيعي.

وعلى الرغم من سريالية زمن الفرحة، ففي القرن الواحد والعشرين لا يفترض أن يكون هذا سقف التوقعات بالنسبة للمرأة ولا أن تكون من بواعث فرحها حصولها على حقوق أساسية وفرص متساوية، إلا أننا فرحنا وابتهجنا ونظرنا لهذه الخطوة على أنها تبشر بالمزيد من الحقوق المنسية.

وعلى إثر انتشار هذا القرار، عاد إلى السطح الإعلامي فيديو قديم لشيخ الدين د. عثمان الخميس يرد من خلاله على سؤال حول حكم تولي المرأة لمناصب قيادية مثل رئيسة وزراء أو رئيسة برلمان أو سفيرة أو قاضية وغيرها. بدأ الدكتور رده بسرد حديث “لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة” وهو يرى أن هذا الحديث يشير إلى المناصب الخاصة بمجالات ولاية الأمر، الحكم والقضاء.

يزيد الشيخ قائلا إنه لا يجوز للمرأة أن تتولى القضاء “لأن المرأة شهادتها نصف شهادة الرجل، فكيف تكون قاضية أصلا؟ إذا كانت شهادتها بالنصف في المعاملات، وفي الحدود لا تقبل شهادتها أصلا… المرأة… ليس تنقيصا للمرأة ولكن المرأة لأن عاطفتها تغلبها فلم تقبل شهادتها في الحدود. لا تقبل أبدا. فكيف تكون قاضية وهي شهادتها لا تقبل أصلا في الحدود وفي المعاملات شهادتها نصف شهادة الرجل، فكيف تكون قاضية أصلا؟ لا يصلح أن تكون قاضية، وبالتالي لا يصلح أن تكون ولية أمر مسلمين…”.

يذهب الشيخ إلى إمكانية تولي المرأة بعض المناصب مع وجود ضوابط شرعية إن كان هناك حاجة لها، لكنه يرى أن وجود المرأة في مجلس الأمة خطأ لأنها هنا تمارس عملا تشريعيا، أي أنه منصب في مقام حكم للبلاد ولذلك لا يجوز أن تكون هناك امرأة في السلطة التشريعية، لكن يمكن للحاكم أن يستشيرها إن احتاج مشورتها.

وأنا في الواقع أرى منطقية هذه الحجة على المسلمين المقتنعين بصحة الكتب التراثية والمتمسكين بسلفية الفكر والتشريع والتفسير والتأويل. فإذا كان عامة المسلمين متمسكين بالتفسيرات والتأويلات للنصوص المقدسة من قرآن كريم أو أحاديث شريفة وهي تفسيرات وتأويلات قربت لأن تكمل الألف وخمسمئة سنة من عمرها، فهم ودولهم في مأزق حقيقي، مأزق نفسي وسياسي واقتصادي وحقوقي وإنساني وعقلي ومنطقي.

الكتب الدينية التراثية مليئة بتفسيرات للنصوص القرآنية وتحليلات للأحاديث النبوية والتي، أي التفسيرات والتحليلات، تتلون تماما بلون زمنها وبطبيعة المجتمع في حينها وبالحالة الاقتصادية والسياسية لهذا المجتمع وبدرجة التطور العلمي الذي وصل إليه وبنتيجة المعركة الأزلية الدائرة فيه بين أهل السياسة والدين من جهة وأهل العلم والفلسفة والمنطق من جهة أخرى. كل هذه المكونات تؤثر على التفسير والتحليل والمنطَقة التي من خلالها يتم تناول وتداول النص الديني، وهي مكونات متغيرة، متبدلة، وأحيانا متناقضة، إلا أنها هي بحد ذاتها ما يؤثر على ويحدد تفسيرات وتأويلات يصر أصحابها على أنها ثابتة لا تتغير.

هذه معضلة عويصة، معضلة تمزيقية في الواقع لأي مجتمع يود أن يظهر بوجه مدني إلا أنه يخفي روحا أصولية، مجتمع يود أن يبدو متطورا متحضرا، إلا أنه يصر على أن الحق المطلق واحد لا ثاني له، ثابت لا يمكن تغييره، جامد لا يمكن تطويعه لزمانه ومكانه. لهذا السبب تعيش مجتمعاتنا العربية الإسلامية حياة يلونها النفاق ويسودها التناقض سواءً في الأفعال الظاهرة أو حتى في المشاعر المخفية في الصدور.

كيف نريد أن نثبت أقدامنا كدول مدنية حقوقية، والتي عمادها المساواة بين مواطنيها والعمى الكامل تجاه جنسهم أو أصلهم أو دينهم أو جذرهم، ببنية تحتية مسلحة بإسمنت التفرقة، قائمة على التمييز خصوصا بين الذكر والأنثى، ومتجمدة في قناعات تقييمية وعقابية لا يمكن قبولها في الزمن الحالي؟

كيف تحقق أيها الإنسان المسلم المدني معادلة العيش في دولة ذات مؤسسات مثل السجون العقابية والبرلمانات الترشيحية والبنوك “الربوية”، لكن مشايخك وكتبك التراثية تقول بقطع يد السارق ومخالفة الديمقراطية لمفهوم الشورى الإسلامي وحرمة البنوك الربوية لصالح البنوك الإسلامية (التي لا نعرف فرقها فعليا عن البنوك العادية؟).

إن أي فكرة بشرية، والتفسيرات والتأويلات للنصوص الدينية هي في النهاية اجتهادات بشرية، إذا ما لم تتم مراجعتها وتطويرها وتغييرها وتطويعها لمحيطها باستمرار، فإنها مع الزمن ستذبل وتذوى، أو تنطوي على قدم أفكارها، أو تتراجع ببطء منطقها، لتصبح عصية تماما على الفهم والتنفيذ.

الإسلام لا يحرم العبودية مثلا، وحتى يأتي فقه جديد يحرمه بناءً على معطيات اليوم واعتمادا على تفسيرات وتأويلات جديدة تعتمد بالدرجة الأولى الإطار التاريخي لفهم نص الإباحة ومعطيات الأزمنة المختلفة التي مر بها، فإننا سنبقى في حالة حرج، نعيش تناقضا ليس فقط بين الزمن والفكرة ولكن حتى بين ضمائرنا وهذه الفكرة التي فرض علينا زمننا، بعلمه ومنطقه ومفاهيمه الإنسانية المتجددة، النفور منها واستنكارها.

يضع مشايخ الدين السواد الأعظم من المسلمين في حالة حرج دائمة، في مأزق مستمر، دوما ما تكون مكوناته المرأة، الحقوق الإنسانية، المفاهيم الجهادية، من بين مكونات أخرى متعددة. إلى أن تُنفض الكتب التراثية وتعاد قراءتها وفهمها في إطارها التاريخي ومن ثم يعاد فهم وتفسير النصوص الدينية المقدسة طبقا لزمننا ومعطياته، سنبقى ندور في ذات دائرة الأزمة المحرجة التي لا تنتهي.

ذات يوم ستتغير كل الأفكار، وذات المشايخ المتصلبين في رفضهم لمنصب المرأة القضائي سيعودون عنه لصالح الموافقة، إن لم يكن استحسان ومساندة، على الموقف الذي سيفرضه الواقع والزمن والحاجة. والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى، ربما أظرفها هو التحريم التام الذي ضجت به دنيا المسلمين لفكرة التصوير الفوتوغرافي منذ سنوات، لنصل اليوم للمشايخ وهم يلتقطون سيلفي لوجوههم الباسمة في الحرم الشريف. الدنيا تتغير والظروف تفرض نفسها، فلا داع لترسيخ حرج يمكن تفاديه من خلال مفهوم بسيط: التغيير سنة الحياة.

اترك تعليقاً