تحميل إغلاق

حجر

إن أحد أهم التحديات التي تواجه العالم العربي الإسلامي برمته هو غياب العقل النقدي من عموم تكوينه، فعالمنا عالم غيبي في مجمل فهمه الفلسفي للحياة وظروفها وأحداثها، حيث أن هذه الغيبية في التعامل مع الظروف الحالية والتوقعات المستقبلية تنفي كل أهمية للعقل النقدي إن لم تحرمه أساسا.
في جلسة نسائية دارت أحاديثها عن بعض الهموم والعثرات الحياتية التي تتمحور في معظمها حول خيانات الرجال، أعربت أكثر من واحدة من الحاضرات، كلهن جامعيات، لففن العالم وزرن بقاعه المختلفة، تستخدمن التكنولوجيا وتحسن التعامل معها، عن إيمانها بتدخل السحر في حياتها والذي أوصلها وشريكها الى فراق محتوم. كان من المثير الإستماع لكل هذه التحليلات التي تُحمل طرفًا آخر أو شيئًا آخر مسؤولية النكبة الأسرية، حيث كان يبدو أن التحليل الواقعي أكثر إيلامًا وأشد وقعًا على النفس، خصوصًا في وجود إباحات شرعية وقبول إجتماعي لهذه الخيانات الزوجية، حيث بدا موضوع المخرج الشرعي هو الأشد وقعا وهو يضع هؤلاء السيدات بين إيمانياتهن وآلامهن الدفينة.
وبدا كذلك أن التفكير النقدي الواقعي لم يكن جزءا أصيلا من العملية التحليلية للوضع، حيث غلبت المسلمات ومفهوم التدخل القدري في فهم وتحليل الآلام المتراكمة على مدى سنوات، والتي ظهرت نتائج تحليلاتها في النهاية على أنها إختبار إلهي لا يعطي الله من خلاله للإنسان فوق طاقته، كله محتوم ومرسوم ومقدر.
إن غياب العقل النقدي لا ينعكس فقط على تقويمنا لحيواتنا الاجتماعية ولا يتبين فقط في غيابنا الحضاري وتخلفنا العلمي، بل هو ينعكس بوضوح كذلك على حياتنا السياسية التي لا نستطيع أن نفكر فيها سوى بشكل هرمي، كما التراتبية الدينية تماما، وهو الشكل الذي يتسبب في إعطاء الحاكم أو المسؤول صفة شبه مقدسة، أبوية شبه إلهية تجعل الاختلاف معه أو نقده هو فعل غير محترم في أقله وفعل عاصٍ للخالق من حيث عصيانه لولي الأمر في أشده.
تبدأ هذه القصة الحزينة عندنا من العملية التعليمية في رأيي، فالمنهج التعليمي الذي يضم مقررا عقائديا، أي منهجا دينيا يعلم القطعيات والمسلمات والحق المطلق، لا يمكن له أن يتجاور بشكل صحي مع مناهج أخرى تعلم التفكير النقدي والشك والتساؤل. يصعب جدا على الطالب العادي أن يخرج من حصة التربية الإسلامية بعقل تبنى المسلمات وحرمت عليه التساؤلات وأُلزم بفهم واحد للحياة والحق والقدر والماوراء الحياة، ليدخل بعدها مباشرة الى حصة علوم مثلا تحتاج الى عقل نقدي متشكك متسائل، فعملية تحويل العقل من خاضع مُسَلٍم الى نقدي متسائل لا يمكن أن تتم في دقائق وبتغيير كتاب التربية الإسلامية الى كتاب العلوم الطبيعية. إن وجود مقررات لتعليم الشريعة الدينية، أيا كانت، بشكل قطعي وبصورة الحق المطلق هي أولى المعوقات التي تقف أمام بناء عقل نقدي شغوف متسائل، وكيف يتم بناؤه وقد تم تقديم الحق والحقيقة والتأريخ والمستقبل والحياة والموت وما بعد الموت له جميعا وعلى طبق من تحريم كل تساؤل حول كل موضوع؟
مشكلتنا العربية تبدأ كلها من التعليم، ومشكلة التعليم مشكلة سياسية والسياسة تتشكل بالعقول المنتجة عن التعليم، إنها مشكلة البيضة والدجاجة التي ندور في محورها المغلق العصابي منذ أن ترك العالم العصور الوسطى ودخل الزمن الحديث مخلفنا وراءه. ومشكلتنا التعليمية تنعكس على كل المواد المطروحة في المدرسة والتي يسبغها مقرر التربية الإسلامية، بطبيعته ومتطلباته، بسبغة القطعية، حتى أن معلم الرياضيات ومعلم الكيمياء ومعلم الفيزياء وحتى معلم اللغات لا يقبلون جميعا التساؤل والتشكك، ولا يتوقعون من طلبتهم سوى تكرار ما هو موجود في الكتب وإعادة سرد ما يسمعون بحرفية وإلتزام.
يبقى أن أوضح أنه من المهم بمكان، وخصوصا في مجتمعاتنا الملتهبة أحداثها دوما بالوجود الديني، أن يكون هناك مقررات لتعليم تواريخ الأديان وفلسفتها ومقررات لتعليم الأخلاق وحقوق الإنسان، وهي مقررات يفترض أن تكون فلسفية نقدية تقدم معلومة وتفتح أبوابا للحوار والتساؤل.
فنحن في الواقع في أشد الحاجة للتثقف حول الأديان المختلفة من حيث تواريخها وفلسفتها حتى نستطيع أن نتعايش ونتواصل مع العالم المنقطعين نحن حاليا عنه بالاعتقاد بأفضليتنا وامتلاكنا للحق المطلق وتقدمنا عن الجميع في مرحلة ما بعد الحياة. مثل هذه المناهج التعليمية التي تعرض صورة محايدة تأريخية اجتماعية فلسفية للدين هي المناهج الصحية التي تعين وتعاون بقية المناهج العلمية والتطبيقية على بناء العقل النقدي، أما ما يقدم الآن سينتهي بنا الى أشخاص يعتقدون أن قطعة حجر مدفونة أمام مدخل البيت هي السبب في تدهور حياتهم، فيغلقون الملف ويسلمون الأمر للغيبيات، وتتدهور الحياة.

اترك تعليقاً