تحميل إغلاق

الفرق بين النقد والقمع

الفرق بين النقد والقمع

لا أحب أبداً العناوين المباشرة، أستشعرها جافة، تعليمية وباردة بعض الشيء. لذلك لم يرمني على مُرِّها في هذا المقال إلا «الأمرّ منها» بعد أن خابت مساعيّ في تقديم أي نقد مرضي عنه، تبتعد عنه شبهات القمع. حقيقة الأمر، أنني، بصفتي، لا أستطيع أن أقمع رأياً أو إنساناً، فحتى لو أنني من فريق «الضرب بيد من حديد» فلست أنا في جانب أي قوى أيديولوجية أو سياسية حتى أملك من أمر القمع شيئاً. أنا بالكاد أقول رأيي، ثم أخففه ألف مرة وكأن ألف رقيب عربي يسكن في رأسي.
ومنذ أن بدأت أكتب المقالات منذ سنوات طويلة في صحف محلية وخارجية، ومنذ أن دخلت علينا وسائل التواصل الاجتماعي بحرياتها اللامحدودة، يهاجمني دوماً أضداد رأيي من «يدي التي توجعني» من مفهوم حرية الرأي. فكلما انتقدت رأياً أو تصرفاً أو توجهاً، جاء الرد: ألست من أنصار الحرية، لمَ تعارضين الآخرين في آرائهم؟ فأعود لما كتبتُ، أحاول أن أجد الصيغة القمعية فيه. أنظر في نقدي، بحثاً عن لفظة علنية أو ضمنية ترمي لإسكات الصوت الآخر فلا أجد، أو قد لا أكون قادرة على تمييزها، الله أعلم. المحصلة أن الناس المختلفة معي في الرأي تفترض أنني لا يجب أبداً أن أنتقد أي رأي مخالف لرأيي، لأن نقد الرأي الآخر قمع. بهذه النظرية، يفترض أن يقول كل شخص رأيه ويقف عنده للأبد، كأن رأيه حائط سد أو لعنة أبدية لا يستطيع تعديها.
من المنطلق ذاته، ينتقد البعض اختيار «البلوك» أو صفة الحجب المتوفرة على وسائل التواصل الاجتماعي، اعتقاداً منهم أن مفهوم الحرية يعني أن تجبر نفسك إجباراً على سماع أو مشاهدة ما لا تريد أن تسمع أو تشاهد. حقيقة الأمر أن العكس هو الصحيح، ففي حين أن الحرية تعني أنك قد تتصادف والكثير مما قد يتضارب وأيديولوجيتك أو يؤذي منظومتك الأخلاقية، إلا أنها في الوقت ذاته توفر لك المخرج، تعطيك القدرة، من منطلق فلسفتها، على اختيار ألا ترى أو تسمع ما لا تريد رؤيته أو سماعه. اختيار أن تقصي أحداً عن سمعك أو بصرك حق لك، لا يخل بمفهوم الحرية ولا يحولك إلى هتلر الرأي. لربما هو اختيار يضعف معلومتك أو يقلل من عزيمة تفاعلك، إلا أنه أحياناً يحميك من أذى يفوق احتمالك النفسي، وأحايين يحد من قدرة الأصوات العنصرية عن استخدامك كمنصة إضافية لهم، وفي هذين خير كثير.
أزمة الخلط بين النقد والقمع تقول الكثير عن الاستقبال العربي (أو في الواقع عدمه) لمفهوم الحرية وما يتبعه ويستلزمه من تفعيل للنقد. نحن فعلياً مجتمعات لا تعرف كيف تنقد بلا شبهات، لأنها فعلياً غير قادرة على فهم معنى النقد، وبالتالي غير قادرة على صياغته كلامياً. يتأتى ذلك من عجزنا عن التعامل مع مفهوم الحرية، ومن رؤية مدى اتساع رقعتها بعيوننا المجردة، فالعيون العربية، في المعظم، غير قادرة على احتواء هذا المنظور «السكوبي» العريض، وبالتالي فإن أصحابها غير قادرين على فهم مواقع الخطوط الحمر للحرية، مما يقود أخيراً إلى صعوبة جمة في صياغة طريقة ممارستها.
تتبدى المشكلة من أول كلمتين: حرية النقد الكلامي يفترض أن تكون مطلقة، يحدها الكذب من جهة، أي أن يتم الادعاء بجريمة مثالاً على شخص هو لم يرتكبها، ويحدها الأذى النفسي المتمثل أحياناً في القذف والمساس بالكرامة من جهة أخرى، وتلك يفترض أن تكون حدودها متسعة جداً، بمعنى أنه يجب أن يكون القذف صارخاً، والمساس حاداً حد سكين، مسنوناً، لينظر لهما على أنهما اخترقا مساحة الحرية المفترض أنها متسعة إلى ما لا نهاية. هذا يعني أن حرية النقد يفترض أن تشمل حرية نقد البلاد والعباد والأديان والأيديولوجيات والقادة والسياسيين والعائلة والقبيلة، أن تتناول الحياة والوجود والعدم والخلود وأصعب الأسئلة وأكثر المواضيع حساسية، أن تكون رحبة تجاه التحليل التاريخي والسياسي القاسي لأكثر الأفراد قداسة ولأشد الأحداث أهمية، أن يكون لها الخيار في أن تتشكل في صيغة بحث علمي رصين أو سخرية جارحة رخيصة، أن تظهر في مجلات علمية محكمة أو من أبواق غير معرفة في «تويتر». كل هذه المناحي والموارد والمصبات تدخل تحت مظلة حرية الرأي، وهو ما يجعلها واحدة من أكثر القيم الإنسانية صعوبة في التحمل والتعامل معها.
إذا استطعنا استيعاب مفهوم الحرية، ننتقل بعدها إلى استيعاب مفهوم النقد، الذي يفترض أنه يحتفي بهذه الحرية في أبهى وأحياناً أرقى، وأحايين أرخص صورها. والنقد بحر تجري مياهه في كل الاتجاهات وتصب فيه المياه من كل الاتجاهات، فيمكن أن يُنتقد رأيي، فأنتقد أنا الانتقاد، لينتقد آخر انتقاد الانتقاد، ثم يعود الأول لينقد نقد نقد الانتقاد… وهكذا. لا يخرج النقد خارج إطار الحرية إلا إذا صاحبته مطالبة لإسكات الرأي الآخر، عندها فقط يتحول النقد إلى قمع.
لنا الحق في أن تتأذى مشاعرنا، لا يوجد فعلياً نقد مفرح أو ممتع، كل نقد موجع، فهو يشير إلى خطئنا ويضغط على نقطة ضعفنا. لذا، من حق المُنْتَقد أن يتوجع وتجرح مشاعره، لكن ما ليس منطقياً هو أن يتهم الناقد بأنه متعد على حرياته ومغتصب لحقوقه، فرضا المشاعر ليس حرية يجب صونها، وإيذاؤها ليس اغتصاباً لحقوق يجب حفظها. بالتأكيد، سنتوجع حين يتجه لنا نقد، وستزيد نسبة التوجع إذا كان نقداً قاسياً عنيفاً، وستحتد آلام النقد إذا مس العمق الأبعد للثقافة من دين أو وطن أو أسرة، إلا أن كل الآلام وكل الأوجاع لا تحول النقد إلى اعتداء، يبقى رغم الألم مجرد نقد.
لذا، انتقدوا واستقبلوا النقد دون تهديد أو وعيد، تصحوا.

اترك تعليقاً