تحميل إغلاق

أشواق

أشواق

شعور غامر بالوحدة يحيط بي (وأتصور الكثيرين مثلي) هذه الأيام، أشعر أنني في عزلة، وقد فقدت القدرة ليس فقط على التواصل الطبيعي مع الكثير من الأهل والأحباء وحتى المعارف ولكن كذلك على الاستمتاع بوقتي معهم، هذا الاستمتاع الذي كان يأتي طبيعياً طازجاً كلما التقينا، فرحة حقيقية تقفز من القلب كلما تجمعنا، كلها خسرتها أنا اليوم لأشعر بالوحدة وأنا محاطة بهم والعزلة وأنا في وسطهم. مسافة كبيرة أصبحت تفصل بيننا، أنا أنظر لهم بنقد قاس وهم ينظرون لي بسخرية وأحياناً بتشكك، فرقنا الجو العام والخطاب السائد وخرب الكثير الجميل الذي كان يظللنا كلما تلاقينا.

ما عاد اليوم مثل الأمس، نشزت النبرة العامة وتحول الحوار إلى آخر بشع مؤذ لا مذاق لفكاهته حتى والمتحدثون يحاولون تغطية معانيه بالضحكات. ثقلت المجالس المحببة، بل حتى الجلسات العامة، بالتلميحات والتصريحات المؤذية، غابت روح نقية كانت وثقل الهواء بكراهية باتت تطبق على الأنفاس كما الرطوبة اللزجة. في كل مجلس تجده أو تجدها، هذه التي تقول ما تحاول أنت تفادي سماعه طوال اليوم، تكرره باللفظ، بالشكل، بتعابير الوجه، تقلد “المتحدثة الأًصلية”، تستخدم ألفاظها، تمطط جملها بالطريقة المنفرة ذاتها، تختمها بجملة “يالله من فضلك” التي أصبحت علامة فارقة في أي حديث عنصري. تبدأ بعدها جوقة الشكوى من جنسية بحد ذاتها، “كلونا، خربوا البلد” ليرتفع مستوى الحوار هبوطاً إلى الجمل التحقيرية المعتادة، حتى تشعر وكأنك ترى نسخا متكررة مصطفة بجانب بعضها من المتحدثة ذاتها، المعظم يكرر الحديث ذاته، يستخدم التعابير ذاتها، يشوح بيديه بالأسلوب ذاته. أنظر في هذه الوجوه التي كانت ذات يوم متسامحة محبة، كلها كانت تقف بخجلها وامتنانها أمام مدرس أو طبيب من هذه الجنسية، فيحضر التساؤل أن كيف استطاعت هذه المنفردة أن تغير مشاعر شعب كامل؟ كيف تمكنت من تشكيل نسخ متكررة منها تتحدث بحديثها وتشوح بطريقتها وترفع عقيرتها بأسلوبها ذاته؟

تضيق أنفاسي في هذه المواقف ويتلبسني ضيق وحرج شديدان، فالسكوت تخاذل والرد معركة. أحياناً أقول السكوت أفضل حتى لا أساعد في استثارة المزيد من غبار العنصرية وأحايين أشعر بأن السكوت خيانة وجبن، لكنني دوماً ما أنتهي للدخول في حوار أعلم أنني خاسرته منذ البداية، أجادل، أذكر بالماضي، أفند التقصير الحكومي، بل حتى الضمير الديني أستدعيه: هل يرضى الله عما تقولون؟ هل يحاسبكم الله على عدد الركعات في صلواتكم ووصول الماء للكوع خلال وضوئكم ويغض حكمه عن كلماتكم العنصرية التي تشمل جنسية بأكملها في أحاديثكم؟ سرعان ما ينتهي الحوار إلى تهكم وسخرية من الطرف الآخر أرد أنا عليهما باتهامات بالعنصرية لتنتهي الجلسة إلى لا شيء من المتعة السابقة والرضا الماضي. ارتفع هذا “النموذج” بيني وبين أحبتي، فرقتنا وغيرت قلوبنا فضاعت كل الأشياء الجميلة التي كانت.

استشرت زوجي أن لربما أحق عليّ أن أنقطع عن “غروبات” الواتساب وتجمعات الأهل والأصدقاء، هم يؤذونني بحديث لا أستطيع السكوت عنه، ولو من منطلق نشاطي الإنساني وأنا أؤذيهم بأحكام لا أستطيع حبسها، هم يرون سذاجتي وأنا أرى عنصرياتهم، هم يحكمون عليّ بالتطرف وأنا أحكم عليهم بالتعصب، هم يرسلون النكت والتعليقات التي لا تعريف لها لدي إلا بالعنصرية القميئة، وأنا أرسل التقريعات والتأنيبات التي لا تعريف لها لديهم إلا بالمبالغة والمثالية السخيفة، فما الحل؟ زوجي يقول إن الانقطاع هزيمة وإن الموضوع يجب ألا يأخذ بعداً شخصياً، لكن الكلام سهل، والجلوس في هذه المجالس أصبح حملاً ثقيلاً، والشعور بالهزيمة ليس له سوى طابع شخصي.

أشعر بغربة ووحدة وأنا محاطة بأحب الناس الذين تحول عدد مؤثر منهم إلى نسخ مكررة من نمط كريه أنتظر زوال “موديله” في أقرب وقت. أشتاق أهلي وأحبتي الذين كانت عنصرياتهم السابقة قليلة وشديدة التباعد وتقال على استحياء شديد، أنتظر بفارغ الصبر زوال النموذج الترامبي الوقح الحالي الذي لا يعلن عنصرياته باستمرار فقط، بل بثقة وفخر. أشتاق الجلسات الصافية الماضية حين كانت أهم مواضيع نميمتنا هم الرجال، ننم عليهم بضحكات صافية تعلن مجلسنا مجرد مجلس نسائي مرح. أشتاق أياما أصفى وهواء أنقى وأسلوبا أرقى، أشتاق النموذج السياسي المهذب الذي شكلنا في السنين الماضية وما عاد، فمتى يعود؟

اترك تعليقاً