تحميل إغلاق

بقجة

بقجة

في الغالب سأندم على كتابة هذا المقال، ولكنني غير قادرة على مقاومة الدافع الملح، غير متمكنة من إزاحة الغيمة الداكنة الجاثمة فوق عيناي وهذه اللزوجة الثقيلة الملتصقة بقلبي، يدفعني يأس طازج لكتابة هذا المقال أعلم أن نهاية كتابته ندم، ولكن، سأترك الندم لوقته، حين لا ينفع ولا يؤثر.
دوما ما كنت أروج للأمل، وأنه لولاه لما استمررنا في العمل كتابة وحوارا ونشاطا وتفاعلا مع المجتمع وأحداثه، ولكن في الواقع هذا الأمل طالما تلبسته أنا كمسحوق تجميل، يخفي خلفه ندبات غائرة في عمق الروح تدق فيها أن لا فكاك ولا إصلاح ولا تغيير، هذا هو الواقع وسيبقى هو واقع أبنائي وأحفادي من بعدي، لن أستطيع لهم شيئا ولن يستطيعوا هم لأنفسهم شيئا، إلا إذا قرروا التخلي، إذا قرروا الاغتراب، إذا انتزعوني معهم من عدميتي وأنا مجرد ذكرى لا يتذكرها أحد ارتحالا الى حيث الحياة الميسرة والحقوق المحفوظة.
وكم لمت أنا وأنّبت وقرّعت هؤلاء الذين عبروا عن رغبتهم بالرحيل، تتركون أوطانكم؟ كيف تتنفسون؟ من سيخطو بها نحو المستقبل الديمقراطي الليبرالي العلماني الكامل، من سيأخذها لمصاف الدنمارك وسويسرا وهولندا؟ كم أنا قاسية وأنا أحملهم فوق ما يحتملون وألومهم على رغبتهم في عيش حياتهم الوحيدة التي لن يكون لهم غيرها بالطريقة التي يحبون. كم أنا أنانية وأنا أريدهم مناضلين مضحين، مانحين حياتهم من أجل مستقبل لن يروه، وفداء مبتغى لن يتحقق. من أنا لأقرر الطريق وأثير الضمائر وأوزع الأحكام؟
نحيا نحن في شرق أوسط لا يزال نائما في القرون الوسطى، حيث حكومتك أباك وحيث دينك، كما تصيغه الدولة وتقرره، سيف على رأسك، وحيث المحاكم الدينية كاثوليكية الهوى لا تزال قوية فاعلة وحيث الخطر يتهدد حياتك إن أنت صرحت بنقد أو رؤية مختلفة وحيث «إذا مش عاجبك إخرج من البلد» تلاحقك إن أنت تمنيت وطنا تتسع دائرته لتشمل أكثر من المسلمين. يردونها بسرعة عليك: هذا بلد إسلامي، فتقول لهم، يا أحبتي البلد ليس له دين، الناس مسلمون أما البلد فهو إدارة، الوزارة ليس لها دين، جمعية النفع العام لا تصوم، الجمعية التعاونية لا تحج، المطاعم لا تلبس الحجاب، والدولة هي المؤسسة الأكبر الشاملة لكل هذه المؤسسات، ليس لها دين، ولا يجب أن يكون.
تبقى تدور وتدور، تكرر ذات الكلام حتى تسمع صداه فاترا في أذنيك وحتى تفقد الكلمات معناها. غربة باردة تنخر عظامك وعزلة مظلمة تحتويك وأنت تكرر كلماتك كما الببغاء في القفص، لونك لامع وكلماتك خاوية لا أحد يسمعها، لربما يرددونها خلفك بسخرية وتفكه، لكن أحدا لا يفكر بمعنى الكلمات لأن أحدا لا يصدق أنها قابلة للتطبيق، ومعهم حق. في مجتمع يتحكم فيه الخوف بالجموع وتوجه فيه الحياة الأخروية تلك الدنيوية، في مجتمع تعتبر فيه الحرية عارا والتنوع رذيلة، في مجتمع تمنع فيه الكتب وتؤسر فيه النساء في مؤسسات الزواج وتزوج فيه الصغيرات وتقرر فيه الفتاوى مصائر الناس، في مجتمع ينص على «إزدراء الأديان» كجريمة رأي حين توجيه نقد للدين، لا يمكن للأفكار المدنية أن تنتعش، نعم، هي أفكار غير قابلة للتطبيق.
أقرأ التأريخ الإنساني فأهونها على نفسي «إذا كانت أوروبا صارمة الكاثوليكية قد وجدت مخرجا للمدنية الكاملة فما يمنع أن نصلها نحن برغم أنف الدواعش والملالي؟» لكنني كاذبة، وأفجر أنواع الكذب هو كذبي، فأنا أكذب على عقلي، أصبّره لأنني أرغب أن يبقى الآخرون وأن يضحوا وأن يعانوا من أجل «القضية»، والقضية خسرانة قبل المداولة أصلا. في داخل كل منا داعشي صغير، معمم متطرف، نعم أقصد التنويع بين الشيعة والسنّة، لا يمكنه أن يتخيل الحياة الدائمة في مجتمع يبيح للمختلف عنه ذات حقوقه، مجتمع يفصل بين الإنسان بحقوقه المدنية واختياراته الدينية. يستمتع بالتصييف في مجتمع متفتح يستنشق فيه بعض الحرية نعم، يهاجر إليه لينعم بالاحترام والحقوق وفرص تكوين المال نعم، أما تحويل مجتمعه هو الى مجتمع مدني يساوي الجميع من دون النظر للدين، فلا وألف لا.
لن يتغير هذا الوضع في يوم. لن تستطيع أن تنقد السائد الديني، لن تستطيع أن تربّي أولادك بحيادية، لن تستطيعي أن تتزوجي من مسيحي من دون تمثيلية تغيير دينه، لن تستطيعي أن تنشري بحثا علميا مرموقا حول تأريخ القرآن، ولن تستطيع حتى أن تقضم تفاحتك في الشارع في رمضان (باستثناء أقل القليل من الدول العربية الإسلامية) وسيبقى العلماء مضطهدون والمفكرون ملاحقون، وسيبقى المختلفون موصومون، وستبقى كلما أتيت بالنقد لحدث تأريخي أو رأي فقهي أو قراءة دينية مزدريًا للأديان. لِمَ؟ لأن هذه «دولة إسلامية» لا يجب أن تجرح مشاعرها، فبالتأكيد الدولة التي لها دين لها مشاعر تجرح، وليس عليك لحماية نفسك سوى أن تكون منافقا أو مهاجرا، «وإلّي مش عاجبه يخرج.»
لن يتغير شيء في يوم لأن الأغلبية العظمى منا متفتحة مؤمنة بالحريات وحقوق الأقليات وتحترم الاختلافات الى أن تقترب هذه الاختلافات والمطالبات بالحقوق والحريات من آرائها ودينها، ساعتها سيطل عليك من خلف كل وجه ناعم داعشي معمم (لزوم المساواة بين الشيعة والسنّة) ويتناثر عليك من كل فم متشدق بالحريات والحقوق رذاذ أسيدي يحرقك أنت وحرياتك ويرسلك «ببقجتك» خارج البلد وإذا مش عاجبك… إخرج.
لا أمل في تغيير مطلقا، ولذلك سنبقى عبيد الشمولية والتطرف وطبعا الاستعمار الذي يتغذى على هذين ويعتمد دوما عليهما في إلهائنا عن حاجتنا الطبيعية للتطور. ترامب أعلنها عاصمة لإسرائيل ونحن تحت طائلة قانون «إزدراء الأديان» ولذلك بالذات، ونعم العلاقة واضحة أوضح من الشمس في منتصف أغسطس، لن تعود القدس ولن يتغير شيء.

اترك تعليقاً