داعش اليوم هي محاصصة، لكل دولة دفعت أموال نفطها (أو غير نفطها) لتجير الدين لصالحها نصيب، يأتي هذا النصيب على شكل عضوية مواطنيها في المنظمة ويتجلى في حصتها من تهديد حدودها وأمنها. يعني، كل دولة دفعت، بشكل مباشر أو غير مباشر، لتأمن نفسها ضد شيعة المنطقة، لتقوي حركات ارهابييها وتكفيرييها صداً «للخطر الايراني» الذي أصبح أغنية الساعة، لتقوي نظامها الحاكم بسواعد تحمل سيوف ولا تعلوها رؤوس، لتصبح قوة مؤثرة في المنطقة، لتتحالف تحت الطاولة مع الدول الكبرى لضمان مصالحها، كل دولة دفعت لتحقق واحد أو أكثر مما سبق، يلتف على عنقها حبل الزمن وقوانينه الطبيعية، فلكل فعل رد فعل، وهي اليوم تتلقى ردود الأفعال، فضحها شبابها المنضم علناً للمنظمة الارهابية، وهزمها الوحش الذي أطعمته بيديها حين برك عند حدودها مهدداً متوعداً.
وما طار طير وارتفع، فلدينا من الدول من تريد أن تقفز قفزات واسعة سريعة لتصل الى مصاف الدول الكبرى، دون أن تتحصل على المساحة الجغرافية أو الأيدي العاملة البشرية أوالأهم، الثقافة والفكر والتغيير الأيديولوجي الجذري الذي يحقق لها هذا الوصول، دول تريد أن تطير بسرعة الضوء لتخترق الزمن، لتجري به نحو المستقبل، فلا تراها سوى تحرق نفسها بنفسها. فدولة قطر، جارتنا الأقرب في الكويت، بشعبها الحبيب الطيب وبعقولهم المتفتحة وامكانيات البلد العظيمة كان لها أن تحقق من التطور عميق الأساس ما يجعلها الدولة الأولى في الشرق الأوسط، الا أن لهفة نظامها على «المنصب المتقدم» دفع بهم لسوق السياسة السوداء، قناة اخبارية خربة هنا، أموال نفطية ممولة لأنظمة هناك، تحالفات هنا، يد ممدودة للعدو المحتل هناك، وكأني أرى السقوط المدو للجسد الفتي الصاعد، وهو يقف على «قاعدة» ركيكة الأساس، متطلعاً للأعلى حتى التوت رقبته وانعصر منه الجسد، ولربما الأوضاع السياسية الداخلية لأسرة الحكم خير مؤشر على سوء المنقلب.
ولا تكون معاناة الجارة السعودية بأقل، فالأموال التي دفعتها «لوعاظ السلاطين» انقلبت اليوم جمراً يكوي جنباتهم، حيث أصبحت الأراضي السعودية بما تحمل من بقع اسلامية مقدسة مصدراً أول بكل أسف للقوى البشرية الارهابية، وعلى قدر ما تدفع، على قدر ما تستقبل. فتحالف السيف والدين الذي حاولت به الدولة الشقيقة تثبيت دعائم سلطانها يتخلخل اليوم تحت وطأة الأفكار الحديثة ومفاهيم حقوق الانسان أولاً، وتحت ما أنتجه هذا التحالف من ارهاب وعنف يهددان وبشكل مباشر أمن السعودية واستقرارها، والأهم يخلخلان قواها البشرية التي أصبحت تتسرب شيئا فشيئا لتهجر ديارها الى حيث «ديار الاسلام» للدخول في «الجهاد» الذي طالما روٍج له واليوم يرتد سوطاً لاذعاً على جسد شبه الجزيرة المتمدد.
وليس حال الكويت بأفضل، فلسنوات طويلة كانت الحكومة «صديقة» للسلف والاخوان، يجلسون على صدارة طاولتها، يراقصونها في «الحفلات»، يصحبونها في الصولات والجولات، حتى كبر منهم الرأس، وطمعوا في الأكثر، فانقلبت عليهم الحكومة ليصبحوا في يوم وليلة معارضة منبوذة، لتلتف الحكومة وتضع يدها في يد الشيعة، ليتقدموا، وبكل سذاجة ودون أدنى انتباه للدرس الذي للتو انتهى بمأساوية أمامهم، ليتسلموا «شهادة القبول والرضا»، فيحتلون مكان سابقيهم على صدارة الطاولة، ويخطون الفالس مع الحكومة. كل ما قدمته حكوماتنا من تأييد للاسلاميين السياسيين تجلى في علاقات مشبوهة واشاعات مرعبة عن تمويلهم ومساندتهم لحركات ارهابية، وها هي الكويت كذلك تدفع الثمن، ليس بأقله وقوف داعش على مسافة قريبة جداً منا اليوم، في ظل وجود أصوات داخلية مريضة، وان كانت قليلة، مؤيدة للوجود الداعشي السام.
لا يختلف الوضع كثيراً مع بقية دول خليج المنطقة بأسلوبه ونتائجه، الا أنه لربما مغاير بعض الشيء مع الدول المجاورة الأخرى، مثل العراق وسوريا ولبنان، ففي حين أن النتائج واحدة، الا أن «تكنيك» هذه الدول يختلف، فهذه الدول في حين أنها تلعب كذلك لعبة «الملك والرجل الصالح» الا أن لعبتها لها اسلوب مختلف ووجه مختلف لربما يعتمد على العلاقات أكثر من الأموال، على الأرض والبشر أكثر من النفط.
في النهاية، كلنا في الجريمة ضحايا، ينطبق علينا عنوان كتاب جوزيف سعادة «أنا الضحية والجلاد أنا» الذي يتحدث فيه عن دوره في الكتائب ابان الحرب الأهلية اللبنانية، كتاب يثير الرعب والحزن واليأس، اليأس من عقولنا، من أيديولوجياتنا، من تعلمنا الدرس، أي درس، من قراءتنا للمشهد، اي مشهد، فنحن نبدو في «عالمنا الثالث» كما الحائط الضخم المتصلب، ترتد علينا التجارب البشرية دون أن تخترقنا أو تؤثر فينا. نحن الضحايا، بلا شك، وحكوماتنا وأنظمتنا الحاكمة هي الجلاد، ولكن هل نحن بريئين من كل لوم؟ من أين أتت حكوماتنا؟ ومن قدر أنظمتنا علينا؟
داعش في عقر دارنا، واليوم نأكل الطبخة التي بقيت دولنا، بمساعدتنا أو بلا مبالاتنا، تنفخ فيها وتشعل النار تحتها، اليوم يوم السداد، ولا مخلص لنا سوى أنفسنا.