وأنا على وشك كتابة مقالِي حول موضوع آخر تماماً، اتصلتْ بي ابنتي غاضبة، فار صوتها الرقيق على التليفون تأنيباً وتقريعاً: كيف ذلك؟ كيف تسكتون؟ هل هذا حقيقي ماما؟ وقع في قلبي أن لا بد أنني أتيت شيئاً ما ونسيته، وها هي ابنتي تكشفني، غير أنني اكتشفت بعد ثوان أن البشرية كلها قد أتت الفعل وأنا التي في الواجهة أمامها لتحمل اللوم والتقريع. منذ أسابيع وقصص «جرائم الشرف» تملأ وسائل التواصل الاجتماعي، وكأن حفلاً دموياً جماعياً انفجر مؤخراً في العالم العربي، لنصل قبل أيام إلى قصة مروعة في الكويت، وأمس أيضاً قصة أخرى في دولة خليجية أخرى. «هل صحيح يا ماما أن المجرم يعاقب بالحبس ثلاث سنوات؟» توجست خيفة وأنا أحاول أن أشرح لابنتي أن هذا القانون الكويتي عمره لربما خمسون سنة، وهو مأخوذ عن قانون فرنسي قديم كان ينظر لمثل هذه الجرائم على أنها من الجرائم «العاطفية» وأن القانون الفرنسي بالطبع ألغى هذه العقوبة إلا أنها بقيت ملتصقة بنا أو نحن ملتصقين بها لندفع ثمنها غالياً من دماء النساء، توجست خيفة من غضبة ابنتي ومن «المنظر» الذي قد أبدو عليه أمامها.
تنص المادة 153 من قانون الجزاء الكويتي على أن «كل من فاجأ زوجته في حالة تلبّس بالزنا، أو فاجأ ابنته أو أمه أو أخته متلبّسة بمواقعة رجل لها وقتلها في الحال أو قتل من يزني بها أو يواقعها أو قتلهما معاً، يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات وبغرامة لا تتجاوز ثلاثة آلاف روبية أو بإحدى هاتين العقوبتين»، أي بما يقارب المئتي دينار كويتي كحد أقصى، يا بلاش. على حد علمي، هناك قوانين مشابهة في كثير من الدول العربية التي تتعامل تخفيفاً مع مثل هذه الجرائم، بل وهناك أعراف هي أقوى من كل هذه القوانين، التي تتيح للرجال «الانتقام لشرفهم» بإنهاء حيوات النساء «محل الشك»، بل والتي تنظر للقاتل بعين الفخر والاحترام. عالم قديم غريب غامض هو عالمنا، يبدو على سطحه أنه ينتمي للقرن الحادي والعشرين، فيما سراديبه لا تزال هناك، في القرون الوسطى، حيث العنف يتصدر المشهد وحيث المرأة هدفه الأول.
نفخت ابنتي بغضبها وكأنني المسؤولة الأولى عن وجود هذا القانون: «كيف لم تغيروه بعد؟ كيف تسكتين يا أمي؟ لماذا لا نعتصم ليلاً ونهاراً في الشارع إلى أن يلغى هذا القانون؟» حاولت أن أهدئ من خاطرها: «هذا قانون قديم يا حبيبتي، هناك حملات فاعلة ضده في الكويت تعمل منذ زمن، أتحدث في الموضوع كلما سنحت لي الفرصة، من السهل أن يقر القانون ولكن من الصعب جداً تغييره، الروتين، العقلية الذكورية»، ولكن غضبها لم يهدأ، وكأنني المسؤولة الأولى والأخيرة عن وجود هذا القانون، كيف ينظر لنا أبناؤنا، ما يعتقدون من قوانا وقدراتنا؟ هذا القانون يجب أن يكون قد تغير «أمس» يا أمي، لن نسكت بعد اليوم، قالت وكأنها تضع تقصيري عارياً أمام عينيّ.
حبيبتي الصغيرة، أخبئ عنها الكثير لكي تبدو الحياة أقل ظلماً وأكثر إنسانية في نظرها، إلا أن هذه الدنيا بمظالمها لجنسها تحديداً دوماً ما تجد طريقها إليها. حبيبتي اليافعة، هي بعدُ غير قادرة على تقييم العدو الحقيقي، مجتمع ذكوري هائل، مفاهيم هلامية مظلمة، مئات السنوات من العادات والتقاليد بل والقراءات الدينية، فأحد أهم مبررات استمرار وجود مثل هذه القوانين على المرأة، ولكن ليس بالعكس كذلك تجاه الرجل، هو أن للرجل حجة الزواج بأخرى، رسمياً أو عرفياً أو متعة أو بأي صورة من عشرات الصور الأخرى المتوافرة له، أما المرأة «الممسوكة» بالفعل، فهي بلا شك زانية بحكم عدم قدرتها على الجمع بين اثنين شرعاً، إلا أن هذه القوانين تأتي كذلك متناقضة مع أعراف مجتمعية ودينية أخرى تقول بعاطفية المرأة وسرعة انفعالها وعدم قدرتها على التحكم في مشاعرها، أوليست تلك هي حجة شهادة رجل بشهادة امرأتين، أوليس ذلك هو تبرير وضع سلطة الطلاق بمجملها في يد الرجل؟ فمن أين يقال بعاطفية المرأة وتهورها، ومن أين يبرر للرجل الذي من المفترض أنه الأكثر عقلانية واتزاناً، «جريمته العاطفية»؟ متناقضون نحن حتى صميم أرواحنا.
بقيت أعتذر لابنتي مراراً وتكراراً عن شيء لم آته، ولدت أنا في رحابه، كما فعلت هي، إنه مصيرنا وقدرنا كنساء أن نأتي إلى دنيا تجمع من المتناقضات ما يزيغ القلب، وتبرر من الظلم والإجحاف والتمييز والقهر ما يقتل الروح، إنها المعركة المتوارثة منذ آلاف السنوات، ما زلنا نحمل سيوفها بغير اختيار، ما زلنا ندفع من دمائنا وأرواحنا وحيواتنا بغير ذنب، أعتذر منك يا بنتي، نتأخر في غضبنا، في ثوراتنا، لكنه طريق وعر طويل مرهق، الأعداء فيه غير مرئيين، «إشي» عادات و«إشي» تقاليد و«إشي تبريرات دينية»، أفكار مجردة متطايرة، لا نعرف كيف نمسك بخناقها، ولكن ما إن تمسنا حتى تأتي علينا من الوريد إلى الوريد. الطريق صعب، والعدو غير مرئي، والأثمان باهظة، والتغيير يحتاج إلى تفكيك أفكار موروثة من آلاف السنوات، ثم تنصبينني أنا فقط في مواجهة كل ذلك، لأنني ما عملت كل يوم، ما ثرت كل دقيقة، ما مسكت يد كل امرأة أخرى أعرفها ونزلت بها الشارع رثاء واحتجاجاً وغضباً وحزناً، والله معك حق يا بنتي، معك حق.
إلى روح هاجر العاصي، وإسراء الغريب، ولمياء الغنيمي، باقة الورد الأخيرة المفقودة، وكل أرواح النساء منذ بداية الحياة واللواتي دفعن من أرواحهن ثمن تخاذلنا… ارقدنَ بسلام.