كانت تلتمع بورودها الزاهية في النافذة الزجاجية الفارهة للمتجر الفاخر. طار قلبي رغبة في الحقيبة اللامعة طيراناً ساذجاً فتياً ذكرني بصبا متطلِّب حيث الرغبة تفوق المنطق، طيراناً يفترض أنني تجاوزته بالعمر والعقل. لطالما تشدقت بمبادئي التي تمنعني التبضع من محلات الحقائب الفارهة، حيث أقاطع بعضها تماماً أكثر من غيرها بسبب سمعتها الإدارية الحقوقية: تشغيل عمالة أطفال، أجور منخفضة، مخاطر عمل، بيئات غير آمنة وغيرها. أحياناً أتصلب في موقفي حد رفض الدخول لهذه المتاجر، في حين أنني أعرف تماماً نفاق الموقف، فمعظم المتاجر المتوسطة، والمتوسطة المرتفعة، التي أتبضع منها تعاني من نفس المشكلات وترتكب ذات التعديات الحقوقية. أتجاوز هنا وأدقق هناك، لربما معياري هو مدى تأثير اسم «الماركة» على المظهر العام من حيث كونها «تصريحاً» حول المستوى الاجتماعي أكثر منها حول الذوق والأناقة. في الغالب، أحاول أن أتفادى البضائع التي تحمل اسم الماركة أو علامتها التجارية، محدثة نفسي أنني بذلك أبتعد عن «التمظهر» الاجتماعي، لترد علي نفسي بسذاجة الموقف وتناقضه.
في الواقع، بتوسط طبقتي الاجتماعية، هناك من المتاجر ما لا أستطيع التبضع منه أصلاً، بمبادئ أو دونها، حيث أسعار القطع توازي تقريباً قيمة مداخيل طبقتي الشهرية. لكنها تباهت تتحداني في نافذتها الفارهة اللامعة تلك الحقيبة الرقيقة بورودها الزاهية وبطرازها الذي يذكر بموضة خمسينيات القرن الماضي، الفترة الأحب ذوقياً إلى نفسي.
تلفت حولي وكأنني على وشك ارتكاب جنحة، اقتربت من النافذة أنظر للرقم المكتوب بخط دقيق أسفل قاعدة الحقيبة، وقد راودتني نفسي، هل أقتنيها لو كان المبلغ معقولاً أو فوق المعقول بقليل؟ الحمد لله أن ما طال التفكير، فسرعان ما بزغ الرقم ساطعاً ملتهباً حتى أعمى عينيّ مؤقتاً، فاستدرت مبتعدة بخجلي، ماذا دهاني حتى أفكر مجرد التفكير في إمكانية هذا الاقتناء مادياً ومبدئياً؟
وكأن القدر يريد أن يعقد حياتي أكثر (هكذا نحن البشر بكل نمنمة وجودنا، نعتقد أن القدر دائماً يخطط لنا ويحوم حولنا) بعد وقوفي الخَجِل أمام النافذة الفارهة بأيام، كنت أقف أمام نافذة أخرى أقل اتساعاً ونظافة وأخف إضاءة، فتجولاً مع صديقتي في أحد مراكز التسوق «المغمورة»، تبدت لي من خلف زجاج تلك النافذة المتواضعة، ذات الحقيبة، بزهوها وجمالها وأناقة خمسينيات موضتها. لم أصدق نفسي. اقتربت من النافذة وقرأت الرقم المكتوب على ورقة قديمة ملصقة بلامبالاة على حمالة الحقيبة، يا سلام، هذا رقم يمكنني جداً التعامل معه. كان هذا بالطبع متجر للحقائب المقلدة، وكانت حقيبتي الجميلة تتربع في وسطه. نعم، ليست بذات جودة الصنع التي شَهِدتها في النافذة اللامعة، لكنها لا تزال بذات الجمال والأناقة، وبسعر لا يزال يحفظ لها شيئاً من مكانتها الحقائبية، ليس مجنوناً فيحطم ميزانيتي، وليس معدوماً فيشككني بأن هذه الحقيبة ملصوقة بالغراء الرخيص.
عدت إلى البيت والحقيبة تتراقص أمام عينيّ، تلح علي رغبة ساذجة فتية بالاقتناء لم تردني منذ زمن. ترى، هل أنا منجذبة للتصميم الجميل، أم للاسم الكبير، أم للسعر الجذاب الذي يشعرني بالانتصار؟ وماذا لو كان بيع هذه المنتجات غير مرخص، البيع هو المخالف للقانون أما الشراء فلا. وماذا لو كانت الشركات الأصلية متضررة، ليس أنها مؤسسات خيرية أو أنها شركات متواضعة القدرات، إنها إمبراطوريات ضخمة ترتكب من المخالفات الإنسانية والحقوقية والبيئية ما يخل بالتوازن الإنساني والبيئي العالمي بمجمله. ورغم كل ما أسررت لنفسي، بقي نتوء صغير في روحي يؤرقني، أرق ما في العتمة لا أستطيع أن أحدد ملامحه، وكل ما يحدث في العتمة له جانب مظلم مخيف. وعليه، قررت أن أتعرف أكثر قليلاً على عالم البضائع المقلدة، وليتني ما فعلت. بدأت بحثاً إنترنتياً مكثفاً عن مصدر البضائع المقلدة وطريقة صنعها ونوعية العمالة المستأجرة في مصانعها، ليتبين أن هذه سوق سوداء ضخمة موازية بالقوة الشرائية للسوق السوداء المعتادة ولكن معاكسة في اتجاه السعر، حيث تنخفض فيها الأسعار بشكل رهيب لا ترتفع. ترتبط البضائع المقلدة بمصانع مشبوهة خفية، وبعمالة صغيرة السن منهكة مضطهدة، والأكثر رعباً أن هناك ربطاً بين رؤوس الشركات المشبوهة هذه و»لوردات» الجريمة في العالم الملوثين بالاتجار بالبشر والمخدرات وغيرهم من المافيات المرعبة. كان عالماً مرعباً هذا الذي اكتشفته ودخلت في دهاليزه إلكترونياً، والأكثر رعباً أنه تبين لي أنني سأكون نقطة النهاية، حال اقتنائي لهذه الحقيبة، لهذا الأنبوب الدموي الملوث الطويل.
بالطبع، لا يمكن أن يحدث كل ذلك دون أن يؤثر سلباً على الاقتصاد العالمي، الذي بدوره يؤثر على مداخيل الطبقات المتوسطة والفقيرة، هؤلاء، خاصة الأخيرين، هم دوماً من يدفعون الثمن. هذا الانتشار الساحق لهذه البضائع يهدد مفهوم حقوق الملكية بشكل عام، أي فيما يخص الكتب مثلاً والأعمال الفنية تماماً كما تجاه ما يخص البضائع الباهظة، هي سلسلة واحدة ومبدأ واحد.
بالطبع، ثراء سوق التقليد الصيني بالتحديد ما هو إلا نتاج الحرب التصنيعية التي تفوقت فيها الصين، وهذا تفوق أتى بالصين إلى طاولة القوى العالمية، إلا أنه في الوقت ذاته هدد استقرار السوق العالمي والنزاهة، على قلتها، التي يفترض أن تبنى عليها هذه السوق. بدا بعد كل البحث والتمحيص، أن كل الأيادي ملوثة، ولكن أيادي الإمبراطوريات العالمية المعروفة تبدت أقل دموية، فعلى الأقل هي واضحة، لها جسم وكيان، يمكن تتبعها ومحاسبتها، أما إمبراطوريات ما تحت الأرض، فتلك هي جهنم الحقيقية بكل دهاليزها، جهنم كدت أكون إحدى شظايا لهبها النهائية. نعم، أسواق التقليد توفر وظائف وتفتح بيوتاً، إلا أنها على ما يبدو تعدم من الوظائف أكثر مما توفر، وتهدم من البيوت أكثر مما تبني، وكل ذلك في العتمة التامة التي تشل القدرة على التتبع والمحاسبة.
قادتني هذه الحقيبة بكل زهورها في رحلة مرعبة، لأتأكد مما أعرف دوماً وأحاول أن أتلافى التفكير به كثيراً، أن أجمل الأشياء تكلف أحياناً أبشع التصرفات، وأن كل ما نحتاجه لكشف هذه البشاعة هو ظفرنا الصغير، نحك به الجمال السطحي لتظهر أسفله البشاعة بعالمها العميق.
هو عالم لا يود أحد منا أن يكتشفه أو يعترف به، لكن وفي حين أنه يكتفي بأن يجرح مشاعرنا وقلوبنا، هو واقع حياتي يومي لكثير من بني جنسنا، يعيشونه ويعانونه ويتعذبون به ويجوعون فيه ويباتون في عراء لياليه، كل ما فرقنا عنهم هو ضربة حظ جينية. لذلك، يا سيدي ويا سيدتي، قبل شراء قطعة مفبركة، سواء عن إعجاب خالص بتصميمها أو عن رغبة ملحة في المظهر الاجتماعي الذي تمثله، تذكرا أنه في الغالب هناك طفلة منكبة على ماكينة خياطة وطفل مثقل بحمولة تفوق وزنه تمعن في تعذيبهما هذه الخطوة رغم كل ما يبدو من براءتها.
أعلم أن أغلب السوق ببضائعها يقع تحت طائلة هذه البشاعة، لكن على الأقل ما يتم في النور نستطيع رؤيته، أما ما يحدث في العتمة فسيتراكم عفناً قد يقتلنا جميعاً.