يسيطر شعور بالعدمية واللامعنى على المشهد، الماضي مخجل والقادم ضبابي والحالي بلا معنى، فأي معنى هذا الذي يمكن أن نجده في مقتل ما يقترب من العشرة آلاف طفل، بخلاف الجرحى والمختفين تحت الأنقاض منهم والمتوفين في أرحام أمهاتهم، خلال ثلاثة أشهر، دون أن يأخذ العالم موقف حقيقي وفاعل لإيقاف هذه المذبحة العلنية؟ صعب جداً على البشر الذي يعايشون الأوضاع الحالية أن يأخذوا الحياة بجدية، أن يشعروا بأي أمان، أن يعتقدوا أن لكل شيئ سبب، أو أن يجدوا للأحداث وتبعاتها معنى. لربما الرسالة الوحيدة من وجودنا البشري المعزول على سطح هذه الأرض المنمنة في هذا الكون اللانهائي تنحصر في تأكيد أن القوي يأكل الضعيف وأن العدالة كذبة كبرى وأن نهاية كل ذلك بحلوه القليل وبؤسه الكثير قادمة حتماً، نهاية البشرية بكوكبهم بشمسها بمجرتها، لتجعل كل الذي كان وكل ما سيكون بلا أي معنى.
وفي حديث جانبي مع ابن عمي وصديقي الحبيب الذي دوماً ما يدفئ قلبي بجميل حواراته، أفضيت له بشعوري الملح هذا بالعدمية وغياب المعنى. ولأنه ينتمي لجيل لاحق لجيلي، سرعان ما فلسف لي إلحاح هذا الشعور حالياً بدرجة أكبر من أي وقت مضى. قارن هو شعوري الكوني الكبير بالعدمية واللا معنى بشعور الكثير من أبناء وبنات جيله بهما بشكل مستمر ملازم لهم في الحياة اليومية، ذلك أن العمل الجاد والاجتهاد ومفاهيم “من جد وجد” و”العلم سلاح” وغيرها مما تحض على العمل الدؤوب للوصول إلى النجاح قد تقوضت كلها تحت تأثير إمكانية الوصول السريع والسهل في عالم اليوم. يقول ابن عمي وهو محامي وأكاديمي ضليع في مجاله وناجح بشكل كبير في حياته العملية أنه يقارن تعب سنواته وصعوبة حصاد نتاجها، براحة مشاهير ميديا اليوم وسهولة حصادهم للمحصول، وأن كل ذلك يلح علينا جميعاً بالسؤال، هل لكل جهودنا معنى بخلاف الشعور الذاتي بالقيمة ولربما الرضا عن النفس؟
تكلم ابن عمي كذلك عن قراءته لتقرير حول الهبوط حاد في الحالة النفسية والذهنية عند الكثير من الشباب والشابات مع بداية ظهور السوشيال ميديا بتطبيقات مثل الانستغرام، هذا الذي أوحى للكثيرين بأنهم يقودون حيوات فاشلة مليئة بالصعوبات، أنهم ليسوا ناجحين بقدر كافي، جميلين بقدر كاف، مشهورين بقدر كاف، ليسوا حتى سعيدين بشكل كاف يؤهلهم لأن يكونوا في مصاف مشاهير الانستغرام. تدفع هذه المسافة بين الحياة المصورة للآخرين والحياة الحقيقية للشخص المعني للتساؤل، لماذا أنا مختلفة أو مختلف؟ لماذا يعيش الجميع هكذا حياة جامحة فيم أنا أعيشها بخمول ومشاكل؟ لماذا أنا لست سعيد؟ فات على الكثيرين في بداية هذه الطفرة التكنولوجية حقيقة أن كل الحيوات “محشوة” بلحظات ممتدة من الخمول والمشاكل، وأن السلبيات دوماً تتفوق على الإيجابيات، وأن الانستغرام ما هو سوى شاشة انتقائية متحيزة، يُظهر عليها الأشخاص ما يتمنون أن تكون حياتهم عليه لا ما هي عليه في الواقع. “السوشيال ميديا تجعل الشباب مستمراً في إقامة مقارنات غير منطقية مما يفقدهم الطاقة حتى على مجرد محاولة تحسين حياتهم،” أخبرني ابن عمي مطرقاً، فيم غبت أنا تفكيراً في سوشيال ميديا تحوطني بهَمِّ مختلف يتجاوب وسني عمري الذي يأخذني في اتجاه عدمية كونية كبرى تكتسح هذه المشاعر اليومية المؤلمة.
بطرف إصبعي أحرك الصور الانستغرامية فتتوالى مشاهد الحياة بكل غرابتها وتناقضاتها وخوائها وثرائها وأفراحها وأوجاعها، فمن صورة لوائل دحدوح ينعى شهيده “الجديد” إبنه حمزة دحدودح، إلى فيديو لجميلة تشرح كيفية استخدام أدوات التجميل باهظة الثمن، إلى صورة لصغيرة تنزل دماءها على أرضية المستشفى، إلى تاليتها لصديقة تضع صورة لوجهها الباسم في ربوع أوروبا، إلى دماء ومزيد من الدماء، إلى كلمة حقيرة لسياسي حقير يعرب من خلالها عن أمله بتفجير غزة نووياً، إلى فيديو لصغار مخيم ينشدون من أجل فلسطين، إلى صورة إلى فيديو إلى مشهد إلى دماء إلى ضحكات إلى حقيبة باهظة الثمن إلى طفلة بملابس بالية، هكذا تتوالى المشاهد، هكذا نتوه في تناقضاتها، وهكذا تصبح الحياة بلا أي معنى.
وكأن ابن عمي الحبيب شعر بأزمتي، فلاطفني بمواساته: “نحن نصنع المعنى، هي اللحظة، هي كل شيئ.” نظرت له ممنونة للحظات حواري معه، وددت لو آخذه إلى قلبي فأحميه من كل ما قد يوجعه في هذه الحياة وأن أختبئ في قلبه من أوجاع أخشى نسيانها قدر خشيتي توالي ذكرياتها، لربما لو فعلت، أصنع بعض المعنى ولو فقط في هذه اللحظة.