في مجرى حديث لي مع الصديق الدكتور سليمان الخضاري، الطبيب الكويتي الأكاديمي المختص بالصحة النفسية والكاتب الصحفي والشاعر، أخبرته أن لي أرقا يمسك بي تجاه زوجي، تفزعني فكرة البعد أو الفقد، تؤرقني حقيقة الانفصال المحقق ذات يوم حين يحين الأجل، لذا أرفض بصرامة إمكانية المرور بها.
أحيانا تستبد بي الفكرة ويستفرد بي الخوف، فتجدني أصحو في منتصف الليل لأضع أذني على صدر زوجي أستمع لدقات قلبه، أو أقترب من أنفه أستشعر حرارة أنفاسه. أحيانا يستبد بي غضب غير مبرر إذا أتى هو أي تصرف غير صحي مهما كانت بساطته، غضب أكبر مما يحتمل الموقف. قلقي يأكلني ويفسد عليّ أياما يستوجب الاستمتاع بها، قلق لا أفهم مبررا لحجمه أو سطوته.
ما رد عليّ الدكتور سليمان وقتها، ابتسم ابتسامة لطيفة وشخبط شيئا ما في أوراقه. بعدها بأيام أخبرني أن القصة تجلت له في قصيدة، وبعد ذلك بشهور، أعلن من خلال حسابه في تويتر انطلاقة عمل غنائي قادم لقصيدته المعنونة “كل ما عدينا يوم” والتي هي “قصيدة مستوحاة من قصة حب جميلة تعيشها الصديقة الغالية د. ابتهال الخطيب مع زوجها العزيز..” بحسب كلمات الدكتور، مضيفا “حبكم أسطوري.. أتمنى لكم كل السعادة”.
نتمم أنا وزوجي في مايو من هذه السنة ثلاثين سنة زواج. ثلاثون سنة أخذت في تأملها على إثر توصيف الدكتور سليمان: “حب أسطوري”، هل هو كذلك؟ في الواقع، قصتي أقل من عادية في مجرياتها، عائلتين صديقتين، عزومات متبادلة، إعجاب متبادل، ثم دون تبادل أي كلمة بيننا، يتقدم هو لخطبتي، ويتم الأمر بعد أن يعطي جدي لأمي موافقته لوالداي، حيث كان جدي لوالدي قد توفى رحمه الله.
كنت أسترق السمع على سلم بيتنا لوالداي يعرضان أمر الخطبة على جدي والذي لا تزال كلماته ترن في أذني: “بخبركما هذا كأنكما وضعتما في يدي الآن مليون دينار، ألف مبروك”.
لم يحدث شيئا أسطوريا بعد ذلك. زحف الإعجاب المتبادل حبا حقيقيا بطيئا إلى قلبينا. مر زواجنا، ومنذ البداية بصعوبات جمة، أول سنة زواج كانت سنة الغزو العراقي للكويت، تشردنا ونحن بعد لم نبدأ، لكننا تمسكنا ببعضنا البعض لنبقي رأسينا فوق مياه الظروف، ففاتت السنة، وفاتت تاليتها، وفاتت ثلاثون، كيف ومتى؟ لا أدري فعلا.
تغيرت كثيرا وحياتي تنغزل يوما بيوم بحياة هذا الرجل. تداخلت الأيام والأحداث، فما عدنا ندري أي الأشياء ملكه وأيها ملكي، أي القصص له وأيها لي. مع الوقت، بهدوء وبغفلة مني، تحول قلبي قِبلته، صارت الحياة أحداث هو يصنعها والمناظر صور هو يشاهدها. تشعبت الحياة خطوط عدة: دراسة وأولاد وعمل، وبقي هو القبلة، هو الخط الأساسي الذي تدور حوله وتنغزل معه كل الخطوط.
أعلم أنني أزعجه كثيرا في حياته. دعوا عنكم الأشياء الكبيرة، تلك كلنا نعرفها معرفتنا لطبيعة الاختلافات بين الأزواج، أنا أزعجه في أشياء صغيرة ومتكررة إبان أيامنا السائرة. أحيانا أحكي له، تأخذنا الحكايات إلى حكايات أخرى، فأصل إلى نقطة أغضب بها من الحكاية برمتها، أقول شيئا وأغضب منه، فيتحول غضبي إليه. يضحك كثيرا من هذا الجنون: “ها؟ أغضبت نفسك وأنا أشيلها؟”. وقت الغداء، أنتهي أنا دائما من وجبتي قبله، ما أن أفعل حتى أستدير إليه وأتعلق في رقبته، أضع إصبعي في الكاتشاب في صحنه. يستمر هو في الأكل بنصف ابتسامة ساخرة ساحرة على وجهه، أمعن في لفّ ساعدي حول كتفه ويمعن هو الابتسام.
يُشبهني الأولاد بالناموسة المؤرقة، تتعلق بإزعاج ولا تتزحزح من مكانها أبدا. يعايرونني بأنني أترك نسويتي عند باب البيت وأنني أفعل ذلك بإرادتي، غير مجبرة، خيانة مبدأ مع سبق الإصرار والترصد. أصر على تفاصيل تنظيمية غير مهمة يوميا. أتحدث تلفونيا بانفعال جلوسا إلى جانبه، أغار حقيقة من صغيرتنا آخر العنقود وأختلق المشاكل معه بسببها، وأخيرا، ومع تقدم العمر على ما يبدو، بدأت أشخر في نومي ليلا.
الآن، كل هذا لا يعني أنه لا يزعجني كذلك. هذا الرجل مصدر إزعاج يومي عظيم لي: يرد هو على كل حواراتي معه بجمل غنائية، أو غالبا بجمل من أعمال الراحل العملاق عبدالحسين عبدالرضا، وكأنه موسوعة معرفية في أقوال الرجل، يجد فيها ما يناسب كل موقف في حياتنا.
مباريات كرة القدم مناسبات لا تفوت، يعتذر من أجلها عن أي التزامات اجتماعية أخرى. يؤجل باستمرار عمل اليوم إلى الغد، وحين يود أخذ شيء من دولابه، يقلب القمصان ويعكس ترتيب البنطالونات بما يستثير فورة عاصفة في رأسي. قليل الكلام، هادئ بشكل يفوق الاحتمال، مزعج حين يجتمع بالصغيرة، صريح ومباشر حتى لأظنني أحيانا “واحد من الرَبع” لا زوجته التي يفترض به أن يجاملها.
أي أسطورية في هذه القصة الكوميدية؟ أي رومانسية في هذا الإزعاج اليومي؟ لا بأس، أعترف أنني أكثر إزعاجا منه في طبائعي اليومية، أنني أغار من صغيرتنا بطريقة محرجة، أنني أؤذيه على وجبته اليومية، أنني آتي الفعلة وأغضب منها، لكنني أقر كذلك غير خجلة أن حبي له أكبر من حبه لي، وأنني متسالمة مع هذه الحقيقة وقابلة بها.
حين نتسامر حول الكيفية التي تحققت بها هذه العلاقة، تقول أمي إنها استجابة الخالق لدعائها عند بيت الله الحرام، ويقول أبي إنها اختيار عقلاني موفق، وتقول الأيام إنها العشرة وحسن المعاملة وتقبل الآخر واحترام استقلاليته، ويقول هو كل يوم، وهو يبتسم إحدى هذه الابتسامات المتسامحة الخلابة في وجهي، وهو يغفر لي، وهو يغض البصر عن إصبعي مدفوسا في طعامه، وهو يغمز للصغيرة اتفاقا مراعاة لمشاعري، وهو يصر على اصطحابي في رحلات صغيرة تخرجني من مآزق الحياة، وهو يستمع لي، وهو يصمت أمام سردي، وهو يساندني حتى وهو مختلف تماما معي، وهو يعاتبني برنة صوته، وهو يسامحني وبعد جمر خطئي ما انطفئ، وهو يسخر من تفاصيل منمنمة تتكرر في حياتي لا تدل سخريته منها سوى على مدى إمعانه في تفاصيلها، على مقدار معرفته بكل تفصيل في أيامي، يقول هو من خلال كل ذلك إنه قَبِل بي، وتلك الجملة القصيرة هي غاية المنى.
لا شيء أسطوريا في قصتي مطلقا، قصة طويلة رتيبة، تلاصقت أجزاؤها ببطء وعلى مدى سنوات وامتلأت أحداثها بدقائق صعبة، مضحكة وأحيانا غريبة لتصنع المعادلة التي نعيشها الآن.
لم تبدأ قصتي بلحظة حب عاصفة، لكنها بتفاصيلها صنعت عواصف كثيرة في قلبي، تثور كلما أقبل عليّ، كلما سمعت رنة المفتاح في الباب ساعة عودته من عمله، كلما سمعت دقة قدمه سائرا لمكتبنا، كلما تطايرت لي همهماته هو والصغيرة في أحاديثهم السرية الكثيرة، كلما رن هاتفه برسالة واردة، كلما علت أنفاسه وهو غاف على كرسيه المفضل بجانب مكتبي، كلما صبّح ومسّى عليّ، كلما ابتسم في وجهي مطمئنا إياي برضاه، كلما أخذ نفسا، فقط إذا ما أخذ نفسا، كلما حدث أي من ذلك ثارت زوابع قلبي كلها.
لا يوجد شيء أسطوري في هذه القصة سواه هو، هو أسطورة حياتي والبطل العظيم الذي استطاع حبسي في سجن بلا باب، بلا حوائط، وبلا أصفاد.
أشكر صديقي الشاعر الدكتور سليمان الخضاري إضفاءه هذه الأسطورية على قصتي وكل الامتنان للملحن الكويتي العظيم الدكتور يعقوب الخبيزي الذي لحنها خلودا، لا تستمر أي قصة من قصص الحياة مهما بلغت استثنائيتها إلا إذا مستها يد الفن، فشكرا هذه اللحظة الساحرة.