عديمو الجنسية.. والتيه في صحراء عالم حقوق الإنسان

في غياب الجنسية الكثير من العذابات والمعاناة، عذابات ومعاناة تفوق التوقع، وتتقدم على كل المتخيل البسيط منه والخطير.

لا تنحصر عذابات ومعاناة عديمي الجنسية فقط في غياب هوية مدنية تؤمن الحقوق وترتب استيفاء الواجبات في إطار قانوني، لكنها كذلك تشير إلى غياب هوية وطنية، غياب تعريف روحي في مجتمع إنساني، يُشعر صاحبه أنه جزء حي من مجموعة، أنه ينتمي إلى تاريخ ومنظومة عادات وتقاليد ولغة ودين، أنه آمن وسط جماعة ملتزمة به ومتكافلة معه، بسبب من توحده الروحي والنفسي والاجتماعي معهم.

إن غياب هذه الهوية الروحية لهو أقسى غياب يعانيه الإنسان، هذا الكائن الاجتماعي الذي يمكن أن تقتله الوحدة، وتدمره العزلة عن “الجماعة” التي يفترض أن ينتمي إليها.

مخاطر وآثار انعدام الجنسية شاسعة وقوية وعميقة الأثر وطويلة الزمن؛ فحتى حين تختفي المخاطر بإنهاء حالة انعدام الجنسية، تبقى الآثار عميقة ومؤلمة ومحفورة في الوجدان، لربما على مدى أجيال.

من يمتلك الجنسية، يمتلك وثيقة الانتماء المدني المهمة لمجتمع وحكومة ودولة، وهي المؤسسات التي ينظم من خلالها المجتمع الدولي عمله وعلاقاته اليوم، لا يمكن أن يفهم معنى العيش بدونها. من يمتلك جواز سفر، يمتلك وثيقة ضمان حرية السفر وأمانه بوجود منظومة حكومية تحمي وتَسأل وتُسأل عن صاحب الجواز وتستجلبه ساعة الخطر.

 لا يمكن أن يتخيل معنى التنقل بدونه، لا يمكن أن يتصور معنى أن يكون سائحًا هائمًا على وجه الأرض بلا جهة تحميه، بلا مؤسسة تسأل عنه، بلا حكومة تعتز به وتطالب بضمان أمانه وتعمل على إعادته إلى أرضه، وكأنه تائه في صحراء قاحلة موحشة لا ظل فيها يستظل أو يحتمي به من قيظ الشمس. إن هذا التيه هو الأصعب بلا منازع على النفس البشرية، وهو يقتل بوحشية؛ تمامًا كما تقتل الأسلحة في الحروب.

في سنوات القرن العشرين التي تلت الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقع الكثير من البشر في فراغات تشريعية خطرة بين الدول الأوروبية التي كان يعاد تشكيلها، ليتحول هؤلاء إلى عديمي جنسية، يعيشون على حدود الدول أو في مخيمات نازحيها، وإن حالفهم حظ الدخول؛ ففي أفقر أماكنها الخفية عن الأعين.

 إلا أن عذاب انعدام الجنسية لم ينحصر في هذين القدرين؛ فهناك قدر هؤلاء الذين هاموا على وجوههم على أسطح السفن، في واحدة من أبشع وأقسى الظروف الإنسانية التي قد تمر على بشر، متنقلين من ميناء إلى ميناء، على أسطح سفن باردة خشنة أو في أقبائها المظلمة الرطبة، بلا أي أمل في وجود ميناء يفتح بوابته على دولة تستقبلهم وتعطيهم فرصة إنسانية للحياة.

كم من هؤلاء قضوا انتحارًا بعد أن طغى هذا التيه على أرواحهم، وسلبهم كل ما يعطي معنى للحياة الإنسانية من استقرار وانتماء!

وبشكل أو بآخر، على موجة مائية أو سياسية، لا يزال عديمو الجنسية مبحرين في محيط لا نهاية له، آملين في مرسى لا ظهور لشاطئه، هائمين في هذه الأرض الشاسعة التي -على اتساعها- لا يجدون لأنفسهم مستقرًَا نفسيًا واجتماعيًا وسياسيًا على سطحها.

إن غياب الهوية المدنية الحديثة التي تؤطر وجود الأفراد بإطار سياسي قانوني يحميهم ويدفع عنهم، لهو أخطر غياب سياسي في حياتنا المعاصرة، هو غياب يكشف هؤلاء الأفراد لأقسى ظروف الحياة ويعرضهم إلى -بخلاف الآلام النفسية والروحية والظروف الحياتية المليئة بالحرمان- أخطر أنواع الوجود الإنساني، وجود خارج إطار التغطية، وجود غير مثبت أو مقنن، وجود يجعل صاحبه عرضة للسقوط المدوي في الخنادق العميقة بين الدول، تلك الخنادق التي خلقتها القوانين وليدة فترة ما بعد الحربين العالميتين.

والتي من خلالها حاولت الدول أن تؤمن نفسها وتحمي هويتها وتنحّي أعداءها، دون أن يكون هناك أي تنظيم بين هذه القوانين يرتب أمور الأفراد الواقعين بين نصوصها، هؤلاء الذين يحيون بين الظروف المقنن لها، بين قصص الحياة التي أخذها المشرع بعين الاعتبار، محتويًا أصحابها دون أن ينتبه لتلك الحكايا القاسية المنسية، وأصحابها الذين باتوا خارج السردية والاعتبار.

لقد نسي السياسي والمشرع والزمن المعاصر جميعهم هؤلاء المهملين على الحدود، الواقعين بين ثغرات القوانين، الهائمين الذين لا تزال أجيالهم اللاحقة تحمل إرث ضياعهم الثقيل.

إلا أنه ليست كل حالات انعدام الجنسية متشابهة من حيث بزوغها بسبب الحروب وتبعاتها؛ فانعدام الجنسية العربي، الخليجي بالتحديد، له أسباب أخرى تجعل من قصتة أغرب صنعًا وأكثر حزنًا وأعظم ظلمًا.

عديمو جنسية هذا الإقليم لا يختلفون من حيث الأصل أو العرق أو الدين أو اللغة عن بقية مواطنيه، إنما هي ظروف البادية التنقلية، أو عدم إدراك أهمية الإجراءات المدنية المستجدة في منتصف القرن العشرين، هي التي تسببت في حرمان عدد كبير من أهل المنطقة من جنسيات أراضيهم، هذا بخلاف الخلافات والعنصريات والوساطات التي قدّرت أشخاصًا على أشخاص ليصفّوا حساباتهم من خلال حرمان الطرف الأضعف من ورقة الجنسية.

أسباب عدة خلقت انعدام الجنسية الخليجي المؤلم، إلا أنها كلها تصب في النهاية في خانة الغرابة والظلم الساحق؛ ذلك أن حالات أصحابها هي الأوضح في العالم كله بظروف اجتماعية وثقافية تجعلهم الأكثر استحقاقًا للحصول على جنسيات الدول التي يقيمون فيها فوريًا ودون تأخير.

وحالة انعدام الجنسية في الكويت هي الأوضح بين دول الخليج “بفضل” يسير الديمقراطية في الدولة التي جعلت الحديث حول القضية ممكنًا مُعلنًا، إلا أن هذه الديمقراطية لم تجعل من ظروف هؤلاء أفضل مطلقًا؛ حيث لا تزال تمارس عليهم شتى أنواع “العقوبات” المؤدية للحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية؛ مثل التعليم والطبابة والتنقل والعمل وغيرها.

أشد ما يعانيه عديمو جنسية الكويت اليوم، ويطلق عليهم مسمى البدون، هو غياب الهوية التي أصبح استصدارها عزيزًا ومرهونًا بالاعتراف بجنسية قد تمنع عنهم أي فرصة التجنس بجنسية الكويت مدى الحياة، هذا إذا كانت هناك فرصة أصلًا، ذلك أن التجنيس المستحق متوقف في البلد، ومنذ زمن ولمخاوف وإن كانت مفهومة منابعها، إلا أن غير المفهوم أو المقبول هو تبعاتها الحارقة وآثارها المدمرة.

لا يزال البدون والناشطون في القضية في الكويت ودول الخليج مهددين بالعقوبات التي تصل كثيرًا إلى الحبس، لا يزال البدون هم أول من يضحى بهم في أي “خطة ترشيد إنفاق” تستدعي إنهاء خدمات للموظفين، قبل حتى المقيمين على أرض الكويت، هذا إذا كانوا محظوظين بالحصول على وظيفة.

 لا يزال أطفال البدون مهددين بالطرد من مدارسهم بسبب عدم قدرة الأسر على استيفاء الرسوم الإضافية التي لا يغطيها الصندوق التعليمي، هذا إذا كان ميسرًا تسجيلهم أًصلًا مع غياب أوراق أسرهم الثبوتية.

 لا تزال نساء البدون يعانين من ظلم مركب متعدد الطبقات من القوانين، ومن تحتها القبيلة، ومن تحتها الأسرة، ومن تحتها أصغر ذكر في هذه الأسرة الذين يعملون جميعًا على قهر هذه المرأة فوق قهر الدنيا وظلم أقدارها.

لا تزال هذه النساء يعانين من سوء التغذية وقلة الرعاية الصحية وضغوطات الرجال في استمرار إنجاب أبناء، في الغالب لن يعرف عنهم رجل البيت الكثير، تاركًا رعايتهم وتوفير الكسوة والغذاء لهم على ظهر أمّ سيقعدها المرض وضعف الرعاية الصحية وقلة التغذية وتوالي الإنجاب وكثرة القلق والهموم والأحزان في سن صغير.